معتز بالله عبد الفتاح
أشعر بحرج شخصى لاعتذارى عن الانضمام لحكومة الدكتور حازم الببلاوى، ولكن أعتقد أن اعتذارى لا يمنعنى من أن أقول نصيحة أراها ضرورية لأننى أتمنى للدكتور حازم ولفريق عمله النجاح فى قيادة البلاد فى هذه الفترة الصعبة، وأعتقد أنهم قادرون على النجاح لو أحسنوا التخطيط له وقراءة المشهد من أبعاده المختلفة.
ودعونى أوضح ثلاثة ضوابط ضرورية قبل الشروع فى النصيحة:
أولاً: أى شخص فى المعارضة سيحسب قراراته من منظور المعارضة، ونفس الشخص فى الحكم سيحسب قراراته من منظور الحكم. ولهذا عرفنا أن بعض الأسماء الموجودة فى المعارضة الآن كانت تعترض على قانون «تنظيم التظاهر» الذى اقترحه الإخوان على مجلس الشورى، ولكنهم حين وصلوا إلى السلطة تبنوا ما هو مثيله. دارسو العلوم السياسية يسمون هذا التفاوت فى المواقف ب«نظرية الدور السياسى»، ومن اسمها يبدو أن فكرة «الدور» الذى يقوم به الممثل فى الأعمال الدرامية تجعله يتقمص شخصية ليست بالضرورة شخصيته الأصلية. وهو نفس ما يحدث مع السياسى الذى يصل إلى السلطة، فهو عليه أن يتقمص دور القابض على مفاتيح مؤسسات الدولة المطالب بحفظ أمنها ضد من يعتبرهم خارجين عليها، وينسى عادة أنه كان هو، من وجهة نظر شخص آخر، يوماً يعتبر من «الخارجين عليها» لكنه غيّر مقعده من المعارضة إلى الحكومة.
إذن: دليل المرشد الأمين للشخص القابض على الموازين، لا تفكر كممثل يلعب دوراً محدداً، ولكن كمخرج يعرف كل الأدوار، ويعرف كيف يفكر من هم فى السلطة ومن هم فى المعارضة، وقديماً قال (Erich Ludendorff) القائد العسكرى والسياسى الألمانى الشهير: «السياسة، كما لعبة الشطرنج، تتطلب أن تفكر بعقلك وعقل منافسيك، وإلا ستظل دائماً مندهشاً ومفاجأً مما يفعله الآخرون».
ثانياً: الناس يتوقعون من السياسى فى المعارضة أن يكون أميناً على ما وعد به بعد وصوله إلى السلطة، أى أن يكون أداؤه فى مستوى ما وعد به. والفجوة بين أدائه وتوقعات الناس منه هو ما يخلق إما الإحباط، وهو ما حدث مع الرئيس مرسى، أو الشعبية، وهو ما حدث مع الرئيس السادات بعد 1973. لذا فإن أصدقاء التيارين الليبرالى واليسارى يتوقعون من حكومة «جبهة الإنقاذ» بعد أن تزوجت مؤسسات الدولة أن يكون أداؤها مختلفاً عن أداء حكومة الإخوان بعد أن تزوجت مؤسسات الدولة لمدة عام، وإلا سنصل إلى استنتاج أن هذه الأحزاب والجبهات ليست أحزاباً سياسية وإنما هى ديكور دعائى مثل الطربوش أو العمة التى نضعها على رأس الفاعل الأصلى والأساسى ألا وهو الدولة التى لها منطق تفرضه على من يتزوجها.
إذن: متوقع أن نجد تحسناً فى الأداء فى المجالات التى أخفق فيها السابقون، وليس تكراراً للأخطاء والإخفاقات نفسها، لأنه لو تكررت الأخطاء نفسها فهذا سيضعف الحجتين السياسية والأخلاقية لمعارضة سياسات الإخوان.
ثالثاً: منذ 11 فبراير 2011 وحتى الآن لم يحصل أى ممن وصل إلى السلطة على التفويض الكامل بأن يتخذ قرارات مصيرية بنيوية تقرر مستقبل البلاد أو تغير فى نمط العلاقات المدنية - العسكرية، الدينية - السياسية، المجتمعية - الدولتية، الطبقية الاجتماعية والاقتصادية. أقول هذا وأنا أعلم أن أول رئيس منتخب بعد الثورة كان ينبغى أن يكون من الحكمة بأن يخلق التوافق بين معظم القوى السياسية على أجندة وطنية جامعة، وهو ما كان ممكناً حين كان محاطاً فى قصره الجمهورى بالأسماء التى كانت موجودة من يساريين وناصريين وليبراليين ومسيحيين، ولكنه تجاهل هؤلاء وقرر أن يصمم مستقبل مصر وفقاً لرؤى جماعته التى كانت بلا رؤية شاملة للوطن، وهو خطأ لا ينبغى أن يكرره من هم فى السلطة الآن.
إذن: لا ينبغى أن يتصرف الدكتور حازم الببلاوى وفريق عمله وكأن معه تأييداً شعبياً جارفاً أو له رصيداً كبيراً فى الشارع يجعل معه تفويضاً شعبياً بأن يتخذ قرارات صادمة بلا سند من دعم شعبى واضح أو حكم قضائى بات.
هذه كانت الملاحظات المنهاجية، إذا شئتم، وهى تمهد وتسهل الحديث عن رؤيتى الشخصية لنجاح أو فشل هذه الفترة الانتقالية ومن هم قائمون عليها.
أولاً: أتمنى أن تخرج لنا لجنة الخمسين بنص دستورى لا تسيطر عليه روح الانتقام والثأر وإنما روح التوافق والبناء، بما يحقق أهداف الثورة الأربعة: العيش، الحرية، العدالة الاجتماعية، الكرامة الإنسانية، ومعها الهدف المنسى وهو الدولة الوطنية الديمقراطية.
ثانياً: هناك نصوص دستورية وقانونية ولائحية لا بد أن تصدر من أجل تحقيق كل هدف من الأهداف السابقة؛ مثلاً سأحكم على نجاح أو فشل الفترة الانتقالية بالنظر إلى خمسة نصوص دستورية وقانونية أساسية لتقول لى إن كنا نسير فى اتجاه الحرية والعدالة والكرامة والدولة الوطنية الديمقراطية أم لا، وأقصد بها قوانين: تنظيم نشأة وعمل الجمعيات الأهلية ومؤسسات المجتمع المدنى، قانون تنظيم التظاهر، قانون إتاحة المعلومات وتداولها، قانون تكوين الأحزاب وتنظيم عملها، قانون تنظيم الصحافة والإعلام.
ثالثاً: الدولة الوطنية الديمقراطية تتحرك على أربعة مستويات: أولاً: أكبر قدر من الحرية للمواطنين، ثانياً: هذه الحرية ليست قرينة للفوضى، وليست تهديداً للأمن القومى واستقرار المجتمع، ثالثاً: حماية الأمن القومى واستقرار المجتمع ليس قريناً للتغطية على فساد واستبداد الحاكمين، رابعاً: أن تقنع الحكومة أغلب المحكومين بكل ما سبق. هذه ليست أفكاراً يؤمن بها من يحكم ويحتفظ بها لنفسه، وإنما هى عملية معقدة تحتاج إلى وجود أشخاص لهم رؤية فلسفية وتاريخية وسياسية، وقادرين على قياس الرأى العام ومخاطبته والتواصل الدائم مع القوى السياسية المختلفة.
إذن: ما الإجراءات العملية التى على حكومة «الببلاوى» أن تتخذها؟
أولاً: لا تستبقوا الدستور فى القوانين المكملة له، مثل قانون تنظيم المظاهرات الذى يرفضه كثيرون الآن مثلما رفضوه حين قدم لمجلس الشورى فى ظل حكم الإخوان، وكانت الحجة تستند إلى حتمية وجود برلمان منتخب. وهذا الكلام كان صحيحاً آنذاك ولم يزل صحيحاً الآن. وعند السيد رئيس الوزراء مركز معلومات ودعم اتخاذ القرار كى يقدم له دراسة مقارنة عن قوانين تنظيم المظاهرات فى دول العالم المختلفة. وأنصح بدراسة القوانين الخاصة بتنظيم المظاهرات فى جنوب أفريقيا والمجر، وكذلك إنجلترا وفرنسا وولاية نيويورك الأمريكية.
ثانياً: لا تجعلوا جهدكم الوحيد لاستئصال جماعة الإخوان، فهذه وصفة للفشل، مشاكل مصر والمصريين أكبر من أى جماعة بذاتها. عليكم أن تضعوا القواعد العامة المجردة التى تليق بدولة وطنية ديمقراطية، ومن يلتزم بها فقد التزم، ومن لم يلتزم فتوقع عليه عقوبات صارمة، مثلاً منع استخدام دور العبادة فى الدعاية الانتخابية أو فى التجنيد الحزبى، لا بد أن يكون قاعدة عامة ومجردة ولها عقوبة محددة، وهكذا.
ثالثاً: الناس بحاجة لأن يروا نجاحات مباشرة وسريعة فى المشاكل التى اعتادوها يومياً، مثل القمامة وتنظيف الشوارع والمرور والخدمات المقدمة للمواطنين. هل تتخيلون أن من يحصل على رخصة قيادة حتى الآن مطالب بأن يأتى بشهادة من طبيب بسلامة جهازه الحركى والسمعى والبصرى؟ وهى الشهادة التى يتم تزويرها بالقرب من وحدة المرور فى اجتهاد من الحكومة لدعم الفساد والتزوير وتربية المواطنين عليهما، وهى بالمناسبة شهادة ليس لها وجود فى العديد من الدول المتقدمة، والأمثلة كثيرة لهذه النوعية من التعقيدات البيروقراطية التى يواجهها المواطن والمستثمر. ولو استطاعت الحكومة أن تحل شيئاً من هذه المعضلات فسيكون أفضل كثيراً من تكرار أخطاء السابقين بتوحيد أعدائها ضدها بقفزات تشريعية فى المجهول.
رابعاً: التزموا نصيحة «رينيه ديكارت»: «القوانين لا بد أن تكون قليلة ولكنها مصنوعة بمهارة وتطبق بصرامة»، وجزء من هذه المهارة أن تكون ناتجة عن حوار مجتمعى حقيقى.
خامساً: القرارات التى اتخذتها الحكومة للتخفيف المالى عن المواطنين فى بعض المجالات أعطت انطباعاً إيجابياً عن أن هدف الحكومة بالفعل هو تحقيق قدر من العدالة الاجتماعية، ولكن كان المتوقع أن يتم البناء على هذه القرارات والإجراءات لخلق مناخ من الثقة الأكبر بين الحكومة وقطاعات أوسع من المواطنين.
سادساً: لا تزال هناك معضلة فى قدرة الحكومة على تسويق قراراتها وتوضيح أهدافها وشرح خططها، المصريون يفهمون ما يقال لهم شريطة أن نخاطبهم بلغة مقنعة، ولكن الاعتماد على أن الأمور واضحة بذاتها أو أن القرارات ليست بحاجة للشرح فهذه أيضاً وصفة للفشل.
سابعاً: الحكومة أبطأ دائماً من توقعات الناس، ولكنها تستطيع أن تتحول من حكومة بطيئة جداً إلى حكومة أقل بطئاً إذا رتبت أولوياتها وعينها على حل مشاكل المواطن الحالية والمباشرة. هذه هى القضية الأَولى بالتقديم على كل ما عداها.
وكما يختم الدكتور حازم الببلاوى مقالاته: والله أعلم.