معتز بالله عبد الفتاح
إخواننا فى السودان سائرون إلى ما سرنا إليه. وأخشى عليهم من أن يفعلوا «الصواب» بطريقة «خطأ» فتكون النتيجة إجمالا «خطأ» نندم عليه. التخلص من الحكم الحالى قد يكون هو البديل المفضل عند كثيرين هناك، لكن كيف؟ وبأى إجراءات؟
وقد كتبت فى كتابى المتواضع «المسلمون والديمقراطية» فى نسخته الإنجليزية فى عام 2004، وأكدت نفس المعنى فى النسخة العربية بإسهاب أكبر حين قلت: إنه باستثناء مصر وتونس، فإن أى محاولة للتحول الديمقراطى المفاجئ فى منطقتنا العربية لن تكون مأمونة العواقب بل ربما تؤدى إلى عكس المقصود منها.
وقد كان هذا الكلام بمناسبة توضيح أن الغزو الأمريكى للعراق تحت شعارات الحرية والديمقراطية ما كان ليؤدى إلى ما تمناه دعاة الديمقراطية، ليس فقط بسبب عشرات الأخطاء التكتيكية التى ارتكبها الأمريكان على حد تعبير كونداليزا رايس، وإنما أيضا بسبب رخاوة بنية الدولة العراقية وهشاشة ظهيرها المجتمعى. والحقيقة أن بنية جميع النظم العربية، خلا مصر وتونس بسبب تماسك نسيجهما الوطنى نسبيا، تجعلها شديدة الهشاشة؛ لأن سلطة الحاكم وشرعية نظام الحكم وسيادة الدولة ووحدتها مترابطة على نحو يجعل هناك صعوبة شديدة فى النيل من إحداها دون الأخرى؛ لذا فإن معظم دول المنطقة العربية تكون وحدتها وسيادتها مرهونتين بسلطة حاكم مستبد وشرعية نظام حكمه وإلا الفوضى (سواء على نمط حروب العصابات أو الحروب الأهلية)، مثل النموذج الصومالى بعد هروب سياد برى، وعلى النمط الفلسطينى بعد رحيل «عرفات»، وعلى النمط العراقى بعد الغزو الأجنبى. وهى الأنماط التى تتكرر فى كل من ليبيا واليمن وسوريا، ونذرها تخيم بشدة على السودان. وأصبحنا أمام خيارات كلها مُرة بين استبداد مستقر أو حرب على الاستبداد مصحوبة باحتمالات التفكك والفوضى. والعرب ليسوا فى هذا بدعاً بين الشعوب؛ فيوغوسلافيا انهارت كدولة بموت حاكمها، ومن ثم انهيار شرعية الحزب الشيوعى، بما نال من وحدتها الداخلية. وأغلب دول منطقتنا مثل يوغوسلافيا، وأغلب دول أوروبا الشرقية مثل مصر وتونس من حيث التماسك النسبى للنسيج الوطنى، فنجت كل دول أوروبا الشرقية فى عبور نهر التحول الديمقراطى عدا يوغوسلافيا وقعت فى مستنقع الحرب الأهلية.
إذن ما المطلوب إن صح هذا التشخيص؟
أولا: هل لدعاة الديمقراطية أن يتمهلوا قليلا قبل الضغط من أجل التخلص من أنظمتهم الحاكمة فى الدول التى لم تزل مستقرة حتى الآن؟ أقول هذا حرصاً وخوفاً على مصائر إخواننا فى الدول العربية الأخرى؛ لأنه ليس من مصلحة أحد أن يسىء من حيث يقصد أن يحسن. الديمقراطية لها شروط مجتمعية، إن غابت تحولت إلى أداة تدمير لبنية الدولة، وهو ما لا يتمناه عاقل.
ثانيا: المسئولية الكبرى على الحكام أن يتبنوا أجندة إصلاحية ديمقراطية وصيغا سياسية ومجتمعية تسمح للقوى المهمشة والمستبعدة أن تمثل فى عملية صنع القرار، وأن تتبنى أجندة حقوق سياسية واقتصادية واجتماعية تعالج مشاكل الظلم الاجتماعى والسياسى. والأهم إعداد البلاد لتحول ديمقراطى حقيقى على مدى زمنى معقول حتى لا تتحول المطالب الشعبية لأدوات لهدم الدولة وتمزيق المجتمع وإضعاف السلطة المركزية للحكم. وكما ذهب روبرت دال، أكثر المعاصرين دراسةً للنظرية الديمقراطية، ف«إن التربية على القيم الديمقراطية أعقد كثيراً من تبنى إجراءاتها».
ثالثا: لا مجال لتقليد مجتمع لمجتمع آخر؛ لأن منطقتنا هشة بحكم الحدود الموروثة عن الاستعمار، ومخترقة بسبب أهميتها الاستراتيجية، ورخوة بسبب النزعات الانفصالية داخلها؛ لذا فلنتمهل ولا نحرق المراحل.
رابعا: إن قرر العقل الجمعى لمجمع ما، السودان هى الحالة الأبرز الآن، أن يتبنى منطق الانتفاضة الشعبية ضد الحاكم، فعلى المعارضة والقوى الثورية أن تفعل ذلك عبر قيادة موحدة تحظى بثقة الأغلبية الكاسحة من الطبقة السياسية وأن تتفق على خارطة طريق وأن تلتزم بها التزاما صارما ما لم تجد عوارا حادا فيها.
خامسا: أى بناء مؤسسى جديد، سواء فى لجنة أو جمعية لصياغة دستور، لا ينبغى أن تظن أنها تخترع ما لم يكن موجودا من قبل، لكن الأفضل هو الاستفادة مما هو قائم والبناء عليه؛ لأن القطيعة الحادة مع الماضى تخلق بذاتها أسبابا للمقاومة واستنزاف الطاقة فى معارك جانبية غير مفيدة.