معتز بالله عبد الفتاح
قرأت من زمن عبارة تقول: «عجبت لأناس يسمعون نصف الحديث، ويفهمون ربعه ويتكلمون أضعافه» ثم قرأت شرحاً لمصطفى صادق الرافعى يشرح فيه معنى الجدل البيزنطى، أى غير المجدى القائم على رفض المتحاورين لإحداث تراكم حقيقى فى الحوار ولكنهم كأنهم يدورون فى حلقات مفرغة.
أتمنى ألا يكون هذا مسير لجنة الخمسين مع غياب أغلبية واضحة داخلها. وأعتقد أن اختيار السيد عمرو موسى لرئاستها اختيار موفق مع كل التقدير للنقيب سامح عاشور. القضية ستحتاج الكثير جداً من الدبلوماسية الهادئة والعمل فى الكواليس مع شفافية عالية فى طرح وجهات النظر المختلفة والقدرة على ابتكار الحلول الوسط.
ولكن أنا أشفق على الجميع فى مصر من مرض عضال هو نتاج مشكلة كبيرة وهى «مشكلة مصرية مزمنة» أى (م. م. م) وهى أننا لا نرحب بوجهات النظر المعارضة لوجهة نظرنا، ونعتبر أن قبول وجهة نظر مخالفة لنا يعنى انتقاصاً من قيمة الإنسان وحطاً من كرامته.
وأتذكر انتقاد الدكتور الزكى النجيب محمود للتعليم فى مصر لأنه لم يكن «يروض النفس على التعلم» وكان استخدامه للفظة «يروض» دليلاً على أنها مسألة معقدة. وحين درست فى الخارج وجدت أن التدريس فى الجامعة مسألة مهمة للغاية وأهم ما فيه أن يقاوم نزعة العقل البشرى للنزوع نحو «الاستدلال الخلفى» (reverse inference). أى تبنى الإنسان موقفاً ما أولاً ثم البحث عن الأدلة والبراهين والحجج العلمية والدينية والفلسفية، ويرفض أى أدلة أو براهين علمية أو دينية أو فلسفية تتناقض مع الموقف الذى تبناه.
ووظيفة المدرسة ومن ورائها الجامعة أن تسبح ضد التيار الكامن فى نفوسنا غير المروضة على التفكير العلمى، بأن يقول الأستاذ الجامعى لطلابه على الملأ: نعم لقد أخطأت وأنتم أصبتم، حتى يرسل رسالة قوية بأن العلم فعل جماعى، والحقيقة ليست حكراً على شخص دون آخر مهما ارتفع شأنه وعلت قيمته. لذا لا بد من وجود عدد من الناس يتدربون ثم يكونون قادرين على ترسيخ ثقافة الحوار الخلاق والتعلم المتبادل. وهذه مسألة تحتاج لمجهود منظم، حتى يتدرب البشر على «الاستدلال المتقدم» (forward inference). أى أن تكون الأدلة والبراهين والحجج العلمية والدينية والفلسفية سابقة على موقف الإنسان. ولهذا نجد أن الكثيرين فى مصر لا يعترفون بالعلم ولا بالعلماء، هم ربما يعترفون بالخبرة أو المكانة ولكن ليس بالمنهج العلمى وفكرة تلاقى الأفكار وتطورها.
لو حاولت أن توضح أمراً ما لشخص ما، دون أن تتبنى منه موقفاً بعد، سيعتبرك، لمجرد أنك تحاول أن تشرح له الوقائع بكل موضوعية، أنك بذلك تبرره. أتذكر أن حواراً مستعراً كان فى إحدى الندوات المغلقة من أسبوع انتهى لأنى قلت للحضور: «حين أشرح لك كيف أحرز مارادونا هدفاً بيده هذا لا يعنى أننى أوافق على ما فعل، أنا فقط أشرح لك ما حدث ثم نناقشه كى نتفق على رأى مشترك معاً». فردت إحدى الصديقات: «هذه ليست الطريقة المصرية فى التفكير، نحن نأتى لأى نقاش بموقف مسبق ثم ندافع عن موقفنا وإن لم تقل مثل ما نقول وربما بنفس المفردات أو أكثر، سنعتبر أنك تتبنى الرأى المعارض لرأينا. هذه هى طبيعة المصريين».
طبعاً قاومت هذه الطريقة فى التفكير، وأعلنت بوضوح أن المنهج الصحيح هو أن نعرف الوقائع والأحداث والحقائق أولاً من وجهة نظر محددة، ولو الأمر شديد الأهمية فعلينا أن نتأكد أن بيننا من يرتدى «القبعات الست» (وهى فكرة جيدة شرحها دى بونو كمدخل لمقاومة مشكلة أخرى اسمها التفكير الجمعى المتشابه أى group think syndrome والتى تعنى أن يفكر مجموعة من الناس المتشابهة تماماً فكرياً فتنتهى إلى قرارات يظنون أنها تعبر عن الجميع فى حين أنها تعبر عنهم فقط؛ وهو نفس منطق الأهل والعشيرة الذى تبناه الدكتور مرسى).
فى هذه الحالة يمكن أن يكون بيننا حوار جاد. لكن مما أرى وأقرأ أعتقد أن العقل المصرى فى معظمه وقع فى فخ «حرب أهلية فكرية وثقافية» لا بد من إنقاذه منها. حجم المشاعر المتدفقة تمنع التفكير المنطقى، والترصد الشديد قد يجعلنا نسجل المواقف أكثر من سعينا لعلاج مشاكلنا.
وغداً نكمل النقاش.
نقلاً عن " الوطن "