معتز بالله عبد الفتاح
هناك لعبة صينية يتم من خلالها وضع أصابع اليد اليمنى مع أصابع اليد اليسرى من خلال خمسة أطر مصنوعة من الصوف. الفكرة ببساطة أنك كلما حاولت أن تسحب أصابعك من بعضها البعض، تزداد المسألة صعوبة، ولا يمكن إخراج الأصابع من بعضها البعض بأى حل بسيط. الحل الوحيد، واحتمالات نجاحه ليست كبيرة، هو أن تدفع الأصابع فى اتجاه بعضها البعض أى إلى المنتصف وكأنك تدفع فى عكس الاتجاه الذى تريد الهروب منه. فى هذه الحالة فقط تتسع فتحات الأطر الصوفية، وتزيد مساحة الحركة المتاحة لك، فيمكن إخراج الأصابع.
يتعلم الطلاب الذين يدرسون مقررات إدارة الأزمات وإدارة المفاوضات أن فى مناخ الاستقطاب الحاد، لا يكون الحل بمزيد من الاحتقان أو التصعيد أو التطرف، وإنما بالبحث عن مساحة حركة تؤدى فى النهاية إلى خلق ما سماه روبرت دال، عالم السياسة الأشهر، نظاماً يصنع ضمانات متبادلة أو بتعبيره «a system of mutual security» أى أن كل طرف فى المعترك السياسى يطمئن الطرف الآخر أنه سيلتزم بقواعد الديمقراطية على النحو الذى يجعله إن وصل للسلطة فإنه سيتركها حال ثبت أن «الشعب صاحب السيادة» قرر ذلك عبر آلية متفق عليها، وهى آلية الانتخابات أو الاستفتاءات التى ينبغى أن يعكسها دستور البلاد والقوانين المنبثقة عنه.
وحال قرر أى من الطرفين عدم الالتزام بهذه الضمانات المتبادلة؛ فالنظام السياسى ينحرف من الديمقراطية إلى: تسلطية (مصر على عهد مبارك) أو عنف أهلى (سوريا) أو دولة فاشلة (لبنان). ومع انهيار مناخ الثقة التام الذى نعيشه الآن، كل السيناريوهات أصبحت مطروحة حتى لو بدرجات مختلفة من الاحتمالية. ولا يوجد أخطر على عملية التحول الديمقراطى فى أى دولة من أن تلجأ أطراف مهمة إلى التسامح أو تجاهل أو تبرير أو دعم أو ارتكاب عنف سياسى تجاه خصومهم.
فى دولة مثل مصر الآن، ومعها تونس، لا توجد حلول سحرية وإنما توجد ترتيبات مؤسسية ومبادرات سياسية يمكن أن تخفف من حدة الانقسام وتجعله قابلا للانحسار.
أولا، وبلا تردد: ينبغى أن يتوقف عند كل النخب السياسية منطق «الديمقراطية الانتخابية» أو «الديمقراطية الإجرائية» القائمة على نظرية أن من فاز فى الانتخابات يتعامل مع البلاد بمنطق أن الدولة قد وقّعت له «صك إذعان» يفعل فيها ما يشاء. هذا النمط يخلق بالضرورة نموذج «الديكتاتور المنتخب ديمقراطيا» وهو الدور الذى لعبه الدكتور مرسى ومن معه باقتدار، وحذر منه الجميع مرارا وتكرارا. وهو ما خلق أزمة الشرعية التى وقع فيها «مرسى» عبر الفجوة بين «الإدارة السياسية» و«الإرادة الشعبية». الحاكم عليه إما أن يقنع شعبه أو يستجيب له أو يقمعه، والقمع أصبح بديلا غير قائم فى حياتنا السياسية. وهذه هى ديمقراطية ممارسة السلطة.
ثانيا: العملية الانتخابية ستكون هى بطل المرحلة المقبلة، فلا بد أن تدار عبر آلية محايدة ومهنية ومن خلال أشخاص لا ينتمون حزبيا لأى جهة، وبمراقبة ومتابعة من مؤسسات مجتمع مدنى محلية ودولية لضمان نزاهتها تماما وأن تكون مفتوحة لكل من تنطبق عليهم شروط الترشح والانتخاب بلا إقصاء تعسفى، وعلى أنصار الدكتور مرسى ألا يرتكبوا من الحماقات السياسية التى تجعلهم يخسرون الجولات المقبلة أيضا بعد ما خسروا الجولة الماضية باقتدار يتناسب مع قدراتهم السياسية الضعيفة التى حذرهم منها كثيرون. العملية الانتخابية النزيهة مقدمة مهمة لديمقراطية الوصول إلى السلطة.
ثالثا: عدم «أدلجة» مؤسسات الدولة فى أى اتجاه مسألة فى غاية الأهمية؛ لهذا من الضرورى أن نقلل قدر الإمكان مساحة التنافس السياسى وأن نقضى على فكرة أن الفائز يحصل على كل شىء ويحدد كل شىء. وهو ما يقتضى أن تقوم الفترة الانتقالية التى نعيشها على فتح أفق للتعاون والتعايش السياسى مع كل من يقبل بقواعد الدولة وحرمة الدماء واحترام الديمقراطية: ديمقراطية الوصول إلى السلطة، وديمقراطية ممارسة السلطة، وديمقراطية الخروج عليها.
رابعا: على المحافظين دينياً من المنتمين إلى الإسلام السياسى ألا يخلطوا بين اعتزازهم بالإسلام وبين مصالحهم كأشخاص وبين تلك النزعة للمتاجرة بالدين واستعداء آياته وشعاراته لنصرة موقف سياسى، فيه من جاه الدنيا أكثر مما فيه قداسة الدين. لقد أثبت كثير من الإسلاميين فى مواقف مختلفة أنهم ليسوا أهلا لأن يضعوا بجوار أسمائهم صفة «إسلامى»، وأصبحنا نرى سلبيات استدعاء الدين فى التنافس الانتخابى وفى الصراع السياسى ولا نرى إيجابيات له. ولهذا أنا أدعو القائمين على تعديل الدستور أو كتابة الدستور الجديد أن يظل الإسلام برحابته واتساع مدارسه واجتهادات فقهائه المظلة الأوسع للتشريع فى مصر دون أن يكون من حق أى حزب أن يدعى أنه يقوم فى برنامجه الحزبى على أساسه أو بمرجعيته. لكن أن يكون المعنى أعمق من ذلك أن أيا من الأحزاب سواء سمت نفسها علمانية أو ليبرالية أو يسارية لا تملك أن تشرع بما يتناقض مع الشريعة الغراء بمذاهبها المختلفة. وأعتقد أن المادة الثانية من دستور 1971، التى تنص على أن مبادئ الشريعة الإسلامية هى المصدر الرئيسى للتشريع كانت كافية، شريطة أن يلتزم الجميع بالفهم الوسطى والعميق لها؛ لهذا كنت أحد شخصين فى الجمعية التأسيسية اعترضا على المادة 219 التى ظن مقترحوها أنها ستزيل اللبس عن المادة الثانية، فما حدث أنها زادت الأمور التباسا ولا نفعت الشريعة ولا المجتمع فى شىء؛ لأن الخلل ليس فى المادة، الخلل فى العقول التى تظن أنها قادرة على أن تعرف عن الله مراده فى أمور الاجتهاد البشرى فيها شديد التنوع، لكنها تريد أن تحمل الناس، كل الناس، على فهمها هى له وتعطى لاجتهادها قدسية هى ليست أهلا لها وهى ليست من الدين فى شىء.
خامسا: السياسة هى تنافس ملىء بالتفاصيل المهمة، ونحن مجتمع لا يهتم بالتفاصيل، فنفاجَأ بكوارث. مثلا أتذكر أننى فى أكثر من موضع حذرت من ثغرات فى نظامنا الانتخابى واضطررت أن أقف شارحا أهمية التفاصيل، ولكن يبدو أننى كنت أحدث نفسى. وضربت مثلا بصيغة التمثيل النسبى الموجودة فى دولة مثل العراق أو تونس؛ حيث إن نظام «Hare Quota» فى حساب «بواقى الأصوات» يمكن أن يقلب نتائج الانتخابات رأسا على عقب فيحابى الأحزاب الأصغر بما يعطى الحافز كى تظل هناك أحزاب كثيرة صغيرة لا تمثَّل فى البرلمان إلا بعضو أو عضوين فيتفتت البرلمان ويفقد جزءا من فعاليته، لكن لا بد من الملاحظة كذلك أن هذا لا يعنى التطرف فى تبنى النظام المناقض تماما؛ حيث يبالغ فى محاباة الأحزاب الأكبر. ولو كانت دولة مثل تونس طبقت نظاما آخر فى حساب الأصوات مثل «D’Hondt divisor» فى انتخابات 2011 لكان حزب النهضة قد حصل على حوالى 70 بالمائة من المقاعد بدلا من 40 بالمائة من المقاعد حاليا، رغم حصوله على 37 بالمائة من الأصوات.
إذن التفاصيل مهمة وأمامنا استحقاقات صعبة، سواء فى بناء الثقة أو فى إعادة ترتيب العلاقة بين قوى الإسلام السياسى والدولة والمجتمع أو فى الصياغة الدستورية والقانونية للعديد من المسائل.
لست متشائما، وأعتقد أن «رُبّ ضارة نافعة» والكثير من السلبيات تم اكتشافها، وعلينا أن نستفيد منها حتى لا نكرر أخطاء الماضى. قولوا يا رب.
ملاحظة: هذه المقالة كُتبت فى صباح يوم الجمعة 26 يوليو.
نقلاً عن جريدة "الوطن"