معتز بالله عبد الفتاح
نظرية الإعلام الكلاسيكية تركز على ثلاث قيم: Fairness، Balance and Integrity، وهذا هو المقصود بـ«إف، بى، آى» المشار إليها، وترجمتها: الإنصاف، والتوازن، والنزاهة. وهى كلمات لا أعرف متى آخر مرة استخدمها أى إعلامى أو صحفى، أو حتى مواطن عادى فى مصر، فى آخر عامين؛ لأننا استبدلناها بغيرها وإن لم نقلها: الشيطنة والتشويه والشوشرة.
يقول المتخصصون فى «التواصل السياسى» إن عدد المرات التى يستخدم فيها الإعلام والصحافة ألفاظاً معينة فى سياقات معينة تتحول بمرور الوقت إلى صورة ذهنية راسخة عند أولئك الذين يتعرضون لنفس النوعية من الرسائل الإعلامية. مثلاً، ظل الإعلام والصحافة فى الولايات المتحدة يشيران إلى مؤامرات شيوعية حتى أصبح الأمريكان لفترة طويلة يعتبرون أى شخص يتحدث عن العدالة الاجتماعية والمساواة بين البيض وغيرهم وكأنها مقولات شيوعية ويسارية معادية لمصالح المجتمع الأمريكى. وكان هذا جزءاً مما عُرف آنذاك بالمكارثية الثقافية والإعلامية، وهى فترة كئيبة يحرص معظم الأمريكان على ألا تعود. وهى أشبه بنسخة أمريكية من نظرية يستخدمها البعض فى منطقتنا تحت شعار «الولاء والبراء» الأيديولوجى والسياسى؛ فلا يذكر الأعداء بخير، ولا يسمح لهم بالتعبير عن وجهة نظرهم، إلخ.
مما هو معلوم من الإعلام بالضرورة أن الإعلام الأكثر جلباً للإعلان هو الذى يخاطب الغرائز الثلاث: غريزة الخوف، غريزة الطمع، غريزة الشهوة.
ولنأخذ مثلاً الإعلام القائم على مخاطبة غريزة الخوف أو ما يسمى: Fear-based news stories حيث له هدفان: أولاً إقناعك أن حياتك أو مصالحك أو أموالك أو بلدك تحت التهديد. ثانياً، أن مقاومة هذا التهديد والقضاء عليه لن يتم إلا بمشاهدة هذا البرنامج أو قراءة هذه الصحيفة. ولا يكون المعيار هو مدى دقة المعلومات أو القدرة على الاستفادة من المعطيات. وإنما المعيار هو الـbuzz أى الجلبة التى يحدثها البرنامج أو القصة الصحفية.
فى لقاء مع سفير إحدى الدولة الناهضة حديثاً، وهو رجل محب لمصر عاش فيها ويعرفها ودرس فى أزهرها، تطرق إلى الدور الذى لعبه إعلام بلاده فى تحقيق النهضة الاقتصادية، ألخص ما فهمته: الرجل يتحدث عن عالم آخر غير الذى نراه فى مصر.
فى الغرب هناك ممارسات إعلامية وصحفية خاطئة ولكنها استثناء فى مقابل الممارسات الجيدة، لكن فى مصر العكس هو الصحيح. إننا نستورد من الخارج أبشع ما عنده كما كان يصفنا الزكى النجيب محمود: كالطائر الذى قرر أن يكون من الزواحف، فلا طار مع الطائرين ولا زحف مع الزاحفين.
وظيفة الإعلام والصحافة: نقل الحقائق والتعبير عن الآراء. ولكن المعضلة أن نختلق الحقائق أو ننقل فقط تلك الحقائق التى تتفق مع الآراء.
ولكن أحياناً، الحقائق لا تكون متوافرة، ولا يقدم المعنيون المعلومات الكافية للرأى العام. وماكينة الإعلام والإعلان لا بد أن تعمل، فإن لم تجد فى الحقائق عملاً وجدت فى الخزعبلات أعمالاً.
خزعبلات الإعلام المصرى قسمته إلى فريقين كبيرين: أحدهما يستخدم القذف المتواصل على الإخوان (وبدرجة أقل السلفيين)، وآخر يستخدم القذف المتواصل على العلمانيين والليبراليين واليساريين. وكلاهما يرتكب كل ما يتناقض مع الـ(إف، بى، آى) المشار إليها لصالح استراتيجية الشيطنة المتبادلة. وكى تستمر العجلة ولا تتوقف فلا بد من إشعار الناس بأن هناك كوارث دائمة وفقاً لنظرية وصفها الأمريكان: «If it bleeds،it leads» بمعنى أنه طالما فى الأمر «دم» فهنا يكون الخبر الأهم، وتكون المشاهدة الأعلى، والإعلانات الأكثر، وكأنها منظومة من الإفساد المتبادل لعقلية المشاهد أو القارئ. وهو ما يحدث فعلياً من خلال: أولاً، الخلط بين التجارة والإعلام (Media commercialization)، ثانياً، الخلط بين الإثارة والإعلام (Media sensationalism)، ثالثاً، الخلط بين النصب والإعلام: بمعنى أن بعض بسطاء العقول سماعون للإعلام، مصدقون لادعاءاته، حتى لما يعرف هؤلاء بأنهم ينصبون عليهم.
كتبت مقالة من قبل عنوانها «كيف يخدعنا الإعلام» ولم يزل بعض الإعلام يخدعنا، وبدلاً من أن يكون عندنا إعلام فى خدمة مصر، لدينا إعلام فى خدمة الإعلاميين، أو على الأقل بعضهم.
انتقاد الإعلام والصحافة فى مصر ليس تبرئة لأى من السياسيين: حكومة ومعارضة. هى فقط جريمة يتواطأ فيها الجميع، والضحية مصر. لذا لزم التنويه.
نقلاً عن جريدة "الوطن"