معتز بالله عبد الفتاح
جزء من تعقيدات المشهد أن مصر تمر بامتحانين صعبين ومتوازيين، أحدهما امتحان التحول الديمقراطى، والثانى هو امتحان الصدام الأيديولوجى. التحول الديمقراطى بذاته كافٍ تماماً لإرباك العقل الجمعى لأى مجتمع لأنه يعنى زراعة عضو جديد فى جسد اعتاد على غيابه.
والديمقراطية الحقيقية مثل الماكينة المركبة من مكونات متفاعلة: فيها مبادئ (principles) وإجراءات (procedures) والناتج عنهما من عمليات (proceses). ولكن المعضلة أننا لسنا ديمقراطيين بما يكفى، أغلبنا إما فوضويون أو مستبدون. أما الديمقراطية التى هى وسط بين الاثنين فضائعة من أغلبنا. ولا عجب، فحين يفتقد الناس الحكمة يميلون إما إلى البذخ أو البخل، وتضيع منهم صفة الكرم التى هى الوسط بينهما، أو يميلون إلى التهور أو الجبن وتضيع منهم صفة الشجاعة. والأسوأ أن من يتصف بالبذخ يرى من يتصف بالكرم فقط بخيلاً، ومن يتصف بالبخل يرى من يتصف بالكرم فقط مسرفاً. وهى المعضلة التى أفاض فى شرحها أرسطو من 2500 سنة حين قال إن الفضيلة وسط بين رذيلتين، لكن أهل كل رذيلة لا يرون الوسط إلا الرذيلة المضادة.
ولكن يضاف إلى امتحان التحول الديمقراطى المتعثر، امتحان الصدام الأيديولوجى. هناك حالة من الخوف، بعضها حقيقى وبعضها مرضى من الإخوان والأخونة. لدرجة أن بعضنا لم يعد حتى يقبل فكرة أن يذكر الإخوان بأى فضيلة مهما كانت صغيرة. حكى لى صديق من قيادات أحد أحزاب اليسار أنه كان فى إحدى محافظات الدلتا وكان يتحدث فى محاضرة عامة عن حاجة المعارضة لأن تطور من أدوات تواصلها مع الجماهير كى تتمكن من الفوز فى أى انتخابات مقبلة وضرب مثلاً بأداء المنتسبين لجماعة الإخوان المسلمين فى أنهم ما حلوا فى مكان إلا وبدأوا يتواصلون مع الناس ويعرّفون أنفسهم لهم ويتطوعون بتقديم المساعدة أو النصيحة. وأن هذا يعطى انطباعاً جيداً عنهم، ويبدو أنه استطرد قليلاً فى هذه النقطة. وعلى الفور وجد من هبوا فى وجهه مهاجمين إياه لأنه «إخوانى» لدرجة أنه ارتبك لثوانٍ لأن آخر ما كان يتخيل أن يقال عنه إنه إخوانى وهو عضو سابق فى مجلس الشعب عن قائمة منافسة للإخوان ومن القيادات المقاطعة للانتخابات القادمة.
لقد مالت ديمقراطية الصناديق والانتخابات ناحية الإخوان، وأخفق الإخوان فى أن يرتقوا للمهمة الصعبة الملقاة على عاتقهم ووقعوا فى فخ الاستقطاب وجرّوا المجتمع إليه. وكان البعض يظن أن الإخوان هم الأكثر اعتدالاً فى تفسير الدين والأكثر مرونة من الناحية السياسية مقارنة بالسلفيين مثلاً، لكن الملاحظ أن السلفيين، وإن كانوا أكثر تشدداً فى تفسير بعض الأمور الدينية، لكنهم أكثر استعداداً للتجاوب مع متطلبات العبور من عنق الزجاجة السياسى والاقتصادى الذى تعانى منه البلاد. البعض يفسر التشدد الإخوانى بأن جناح «القطبيين» الأكثر تشدداً يديرون مكتب الإرشاد ولهم تأثير كبير على الرئيس، الذى لم يعد له من يشير عليه إلا من ينتمون لنفس الفصيل، والبعض يتحدث عن أن ما يحدث الآن هو جزء من معركة حتمية وطويلة بين المشروعين العلمانى والإسلامى على ملكية البلاد، وأن المعركة لن تمر إلا بالدم. والبعض يرى أنها واحدة من متطلبات التغيير الجيلى وسيأتى فى أعقاب كل «أربكان» أردوغان أكثر نضجاً منه، والحاجة الآن للبديل الملائم سواء بين الإخوان مع نخبة إخوانية جديدة أو بين الليبراليين مع نخبة ليبرالية جديدة أكثر سيطرة على المهارات السياسية اللازمة لإحداث التوافق واحترام قواعد اللعبة الديمقراطية.
امتحان الديمقراطية المختلط بامتحان الأيديولوجية ليس امتحاناً على مستوى المجتمع فقط، ولكنه امتحان فى مواجهة مؤسسات الدولة التى ترفع شعارين متلازمين: نحن مع الشرعية الدستورية ومع الأمن القومى لمصر. إذا جاءت الانتخابات الشرعية بأى فصيل إلى السلطة، فمرحباً بهم، ولكن بشرط عدم قيادة البلاد لما يخل بالأمن القومى لمصر سواء على مستوى عنف أهلى داخلى أو مغامرات عسكرية خارجية.
الامتحانان أثقل من أن يتحملهما من يقود دفة القيادة. مؤسسة الرئاسة بحاجة لإعادة هيكلة لأنها تدخل معركة كبيرة باستعدادات قليلة، والخاسر مصر.
نقلاً عن جريدة "الوطن"