معتز بالله عبد الفتاح
هذا سؤال تاريخى ومحورى. هل لو ظهرت قيادة معينة تستطيع أن تعيد توجيه ثقافة الناس (أى أفكارهم ومعتقداتهم من ثم قراراتهم وسلوكياتهم)، أم أن ثقافة الناس أقوى من أى قيادة، بل إن الثقافة نفسها تشكل وعى ورؤية القيادة.
أتذكر أننى كتبت فى الماضى عن محمد على الذى نصفه عادةً بأنه مؤسس مصر الحديثة، وجورج واشنطن، مؤسس الولايات المتحدة، مستخدما مدخلا يسمى باللغة العربية «الواقع المضاد» (Counterfactual) وإن كنت أرى أن الترجمة ليست دقيقة، أى «التحليل بالاستبعاد الافتراضى»، أى سنعيد تحليل بعض الوقائع مع سؤال «ماذا لو؟» تغيرت بعض العوامل التى شكلتها مثلما حلل ماكس فيبر مصير ألمانيا لو لم يشن بسمارك حرب 1866 التى وحدت الأقاليم الألمانية.
سأستند لنفس الفكرة لأسأل: ماذا لو كان محمد على ظهر فى الولايات المتحدة؟ وماذا لو ظهر جورج واشنطن فى مصر؟ مع ملاحظة أن الشخصين عاشا فى نفس الفترة تقريبا.
هل كان سيقوم محمد على بشن مذبحة (على نمط مذبحة القلعة) بقتل الخمسة وخمسين ممثلا عن ولاياتها الثلاث عشرة المستقلة فى عام 1787 ليتخلص منهم ويحكم الولايات المتحدة حكما انفراديا مثلما فعل فى مصر، أم أنه كان سيدخل فى حوار معمق مع أشخاص لهم رؤية فلسفية عميقة (وهم الآباء المؤسسون لأمريكا) تختلف عن المماليك الذين كانوا مستعدين لمعارضة أى حاكم ينال من امتيازاتهم وصلاحياتهم غير المحدودة؟ قطعا كان سيواجه جيمس ماديسون العبقرى الأمريكى الذى قرأ كل كتاب ظهر فى آخر 200 سنة عن الحكم وإدارة شئون الدولة باللغات الإنجليزية واللاتينية واليونانية ليقول له إن أية حكومة جمهورية تقوم بمهام مزدوجة «عليها أن تحكم الجمهور بالقوانين التى يسنها ممثلوه، وعليها أن تضع نفسها تحت تصرفه من خلال انتخابات تنافسية منتظمة وحرة نزيهة».
قطعا كان سيلتقى ويليام جيفرسون المتشكك فى الحكومة والرافض لأن تتدخل فى شئون المواطنين إلا بالقدر الذى يسمح به المواطنون أنفسهم ليقول له: «إن أعظم حكومة هى حكومة الحد الأدنى» ولأن جيفرسون هو صاحب التعديلات العشرة الأولى فى الدستور الأمريكى، التى تدافع عن جميع الحقوق المدنية والسياسية التى لا يمكن للحكومة أن تنتهكها مثل حق الرأى والتعبير والتجمع وحرية الاعتقاد والديانة والتدين والتقاضى النزيه، فقطعا سيقف جيفرسون أمام الباشا معارضا لأية حكومة مركزية تجعل من الباشا الصانع الأول والذارع الأولى والتاجر الأول والمشرّع الأوحد. قطعا كان سيختلف معه فى سيطرة الدولة على الصحافة؛ فجيفرسون هو الذى أقنع الرأى العام بآرائه من خلال مناظراته مع عبقرى الاقتصاد السياسى أليكساندر هاميلتون من خلال مقالات كل منهما فى الصحف، حتى انتهى جيفرسون للقول: «لو لى أن أختار بين حكومة بلا صحافة حرة، أو صحافة حرة بلا حكومة، لضحيت بالحكومة». ولو قرأنا النقاشات التى كانت تتداولها الصحف الأمريكية آنذاك لعرفنا أن رفع مستوى النقاش الفكرى فى صحفنا وإعلامنا من الفرائض لأية أمة ناهضة.
لقد كان سهلا للغاية فى مجتمع من الأمية السياسية (وهذا ليس بعيدا عن حالنا الآن) أن ينفى محمد على كبير الأشراف عمر مكرم الذى قاد الثورة ضد الفرنسيين ثم قاد العلماء والأعيان للثورة ضد الوالى خورشيد حتى استقر الحكم لمحمد على بل وألبسه السيد عمر مكرم بنفسه «الكرك والقفطان»، شعار الولاية عام 1805، فى موكب وطنى عظيم بعد أن أخذ عليه العهود والمواثيق أن يحكم بالعدل وألا يبرم أمرا إلا بمشورة العلماء. لكن فى ظل الأمية السياسية للمصريين (وهو مرض لم نزل نعانيه) لم يكن صعبا أن يخل الباشا بكل تعهداته.
هل كان محمد على يستطيع أن يفرض سلطته وسلطانه على مجتمع قررت نخبته وجماهيره ألا تقبل عن الحرية المسئولة بديلا مثل المجتمع الأمريكى؟ لا أعتقد.
إن دولة محمد على التى صنعها فى مصر لم تزل حية، هى دولة التسلط، لكنها فى زمننا هذا مكبلة بالرخاوة والتفكك فى مواجهة قطاعات من الشعب التى كانت بحاجة لأن تتم توعيتها والتحاور معها قبل تجاهلها ثم الصدام معها. وسنلاحظ أن دولة جورج واشنطن التى صنعها فى الولايات المتحدة لم تزل حية أيضا، هى دولة فيها الكثير من الديمقراطية رغما عن الكثير من مثالبها التى يكتوى بها الكثيرون، سواء داخل أمريكا أو خارجها.
ولنسأل السؤال المقابل: ماذا كان سيفعل جورج واشنطن لو كان على قمة هرم السلطة فى مصر عام 1805؟ ماذا كان سيفعل حين يلتقى عمر مكرم ومشايخ الأزهر؟ هل كانوا سيبايعونه حاكما إلى الأبد استمرارا لتقاليد الأمويين والعباسيين بشرط مشورتهم، أم كانوا ربما سيسعون إلى «مأسسة» (أى وضع قواعد مؤسسية ودستورية وضمانات قانونية) للإرادة الشعبية التى طردت خورشيد باشا وجاءت بجورج واشنطن، الجنرال الذى أنهى معاركه من أجل تحرير المستعمرات الأمريكية، وفور انتهاء مهمته ذهب إلى المجتمعين فى فيلادلفيا يقول لهم: «السادة ممثلى الولايات الأمريكية، لقد وضعتم فى رقبتى مهمة طرد الإنجليز من المستعمرات.. وهذا ما أنجزته. شكرا على ثقتكم، وأرجو قبول اعتزالى العمل العام كى أعود مواطنا مدنيا مرة أخرى»؟ وقد فعل، عاد إلى مزرعته فى فيرجينيا دون أن يحول مكسبه العسكرى إلى أى مكسب سياسى. وهو ما جعل ملك بريطانيا فى تلك الفترة لا يصدق ما قيل له عمَّا فعله جورج واشنطن، وقال: «لو صدق ما تقولون عن هذا الرجل، فسيكون واحدا من أعظم الأسماء الذين سيذكرهم التاريخ». وقد كان. جورج واشنطن لم يكن باشا، لكنه كان رجلا قارئا للتاريخ شديد الإعجاب بماركوس أوراليوس، الإمبراطور الفيلسوف الذى أعطى حياة دامت 300 سنة للإمبراطورية الرومانية بعد أن كادت تنهار تماما فى أعقاب حكم نيرون المجنون وكاليجولا المعتوه.
غالبا كان سيجتمع جورج واشنطن مع عمر مكرم ورجاله حيث يريدونه دون أن يتآمر عليهم، وقد فعلها حقا. فبعد أن انتُخب رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية بالإجماع فى نيويورك عاد إلى مزرعته وظل الكونجرس مجتمعا فى نيويورك ووجد أعضاء الكونجرس أن مراسلة رئيس الدولة حيث يقيم أمر شديد الصعوبة، فطلبوا إليه أن يختار عاصمة للبلاد يعيش فيها وتكون قريبة من نيويورك. ولأن للرجل أنصارا يعرفون قدره، وإن كانوا لا يملكون بصيرته، فأرادوا الانتصار له ورد «الإهانة» المترتبة على «طلب غير لائق» من رئيس البلاد بأن يغير محل إقامته. لكن الرجل، بلا أى تآمر، وبكل تواضع قال: «يعيش رئيس الولايات المتحدة الأمريكية حيث يريد له ممثلو شعب الولايات المتحدة الأمريكية». ولم يدع الرجل آنذاك أنه «لا يقبل لى الذراع» أو أن «جلده تخين» وإنما هو يعى الدلالة الرمزية للكلمات والقدرة على الاستفادة منها.
كم سنة حكم محمد على باشا مصر؟ حوالى أربعين سنة. كم سنة حكم جورج واشنطن الولايات المتحدة؟ ثمانى سنوات. هل لعجز فى واشنطن وعدم القدرة على الاستمرار؟ الإجابة لا، بل هى البصيرة التى تليق بعظماء درسوا التاريخ وتعلموا دروسه. قرر الرجل أن يكتفى بسنوات حكمه الثمانى إيمانا منه بترسيخ قاعدة أن الرئيس يظل فى السلطة لدورتين رئاسيتين فقط، وظل متفقا عليها بين الأمريكان حتى التعديل الدستورى الثانى والعشرين فى 1951 حيث تحولت القاعدة الشخصية التى أرساها جورج واشنطن وخالفها شخص واحد (فرانكلين روزفلت الرئيس الـ32 لظروف الكساد العظيم والحرب العالمية الثانية) إلى قاعدة دستورية ملزمة للجميع.
حتى إنجازات محمد على ظلت مادية أكثر منها حضارية، لأنه صنع الوطن ولم يصنع المواطن؛ وهذه هى فضيلة الديمقراطية الحقيقية التى لم نعرفها فى تاريخنا قط، وأخشى أن ندمر فرصها بغفلة قياداتنا وتواضع ثقافتنا السياسية.
هناك بعض الدروس التى يمكن أن نستفيدها من العرض السابق: دروس بشأن القيادة ودورها، دروس بشأن النخبة المحيطة وتأثيرها، دروس بشأن الوعى السياسى ومحوريته.
الدرس الأول: القيادات الحقيقية لا تغير فى المبانى والمنشآت فقط، لكنها تقدم القدوة وتعلم الشعوب وتؤثر فى ثقافة الناس وطريقة تفكيرهم من أجل مستقبل أفضل. حين تغيب القيادة الرشيدة، تتحكم ثقافة الغاب على المجتمع.
الدرس الثانى: السياسة محيط هائج يحتاج مهارة جماعية لفرق عمل موسعة تجمع أصحاب الخبرة والرؤية والمصداقية، ومن لا يجد فى نفسه القدرة على كل ذلك، فالأولى به ألا يغادر الشاطئ.
الدرس الثالث: طاقات الرفض فى المجتمع لا تتحول إلى أدوات هدم وتدمير إلا حين نسىء التصرف معها، وهو ما نفعله الآن.
الدرس الرابع: مؤسسات الدولة (سواء الأمنية أو الإدارية) تشعر وكأنها كمن أُجبرت على الطلاق عنوة وعلى الزواج عنوة وحتى قبل انقضاء شهور العدة. هى خرجت من وضع ما قبل الثورة إلى وضع ما بعد الثورة ودخلت فى حالة من الانصياع الظاهرى والعصيان العملى. هم غير راضين عن الطريقة التى تدار بها البلاد ويسهمون فى الخلل؛ لأن القيادة فشلت فى إقناعهم بالدور الوطنى الذى يلعبونه.
الدرس الخامس: المعارضة أيقنت أنها لن تملك مفاتيح السلطة، لكنها تملك مفاتيح الشرعية؛ لذا فهى إن شاركت فى الانتخابات فالحزب الحاكم سيحصل على سلطة أقل ولكن شرعية أكثر، ولو لم تشارك، فالحزب الحاكم سيحصل على سلطة أكثر ولكن شرعية أقل. وبما أن المنطق السائد هو أن خسائر الطرف الآخر هى مكاسبى، فحرمان الحزب الحاكم من الشرعية سيعطى المبرر للخروج عليه وربما ثورة أخرى أو انقلاب عسكرى.
الدرس السادس: الشعوب كالسوائل تأخذ شكل الإناء الذى توضع فيه، هذا الإناء هو مؤسسات الدولة وقوانينها وتوجهها الاستراتيجى. وهذا ما يفسر لماذا اختلفت مصر قبل 1805 عن مصر بعد 1805، وماليزيا قبل 1981 عن ماليزيا بعد 1981. ولكن الشعوب كذلك لديها القدرة على كسر الإناء إن لم تحسن القيادة توجيه أدواتها السياسية المختلفة.
الدرس السابع: الأمل الآن هو أن يكون رئيس وزراء مصر القادم قادرا على سد «عجز القيادة» الموجود فى الرئاسة.
نقلاً عن جريدة "الوطن"