معتز بالله عبد الفتاح
من يقرأ المشهد السياسى فى المنطقة العربية من العراق إلى سوريا إلى لبنان إلى فلسطين إلى مصر إلى ليبيا إلى تونس إلى اليمن قد يخرج بعدة ملاحظات:
أولاً، لقد دخلت الدول العربية منذ 2005 فى حالة زرع المؤسسات الديمقراطية دون الثقافة الديمقراطية؛ مثل حالة زرع المدفع والرشاش فى جيش اعتاد على السيف والرمح دون التدريب الكافى على الفرق بين الوافد والموروث؛ السيف والرمح يقتلان ولكن المدفع والرشاش قدرتهما التدميرية أعلى، وإن لم يتدرب الجندى عليهما جيداً، فيمكن بمجهود أقل من المجهود المبذول مع السيف والرمح أن يقتل أضعافاً من البشر. وهنا تكمن المشكلة.
ثانياً، واستكمالاً للملاحظة الأولى، وبما أن كل عمل إبداعى هو فى المقام الأول عمل تدميرى (كما قال بيكاسو)، فإننا من الناحية الموضوعية لم نقم بعمل إبداعى للقضاء على الاستبداد عن طريق الديمقراطية، وإنما نحن نمارس الديمقراطية بطريقة استبدادية.
ثالثاً، هذا الجيل من العرب يقدم أبناؤه على عمل استثنائى إما أن ينجحوا فيه، وبالتالى يعقدون مصالحة تاريخية بين العرب بخصائصهم وثقافتهم والديمقراطية بخصائصها وثقافتها أو أن يفشلوا فتضيع فرصة أخرى وتزيد الحجج حجة بأن هناك مشكلة هيكلية فى الثقافة العربية تجعلها غير قادرة على التأقلم مع الديمقراطية الحديثة.
رابعاً، إن الثورات العربية غيّرت وتُغيّر مَن يحكم ولكنها لم تغير الثقافة السياسية الاستبدادية المشوهة والموروثات الاجتماعية السلبية التى تقوم على الإقصاء والتصيد والوصاية وشيطنة المخالف فى الرأى وتبرير الاستبداد ورفض العمل الجماعى. فما تعيشه المجتمعات العربية، والكلام أكثر عن التجربة اللبنانية ومعها العراقية؛ حيث كانت الدولتان سابقتين فى تبنى إجراءات الديمقراطية دون ثقافتها، يؤكد تقارب قيم النخب السياسية القائمة على النرجسية وغياب الرؤية السليمة للأمور وضعف الاستدلال النظرى والتخبط والارتجالية والتردد وتقلب المزاج فى طريقة صنع القرارات.
خامساً، أزعم أن مرض الاستبداد موجود فى ثقافتنا وهو يجرى من معظمنا مجرى الدم، ولكن ما يزيده استفحالاً هو النخب التى كان من المفترض أن تكون الطبيب الذى يعالج المرض، ولكنها انتهت لأن تصبح مبتلاة بالمرض بل وتستفيد منه. نحن مصابون «بالربو الاستبدادى»، ويطلب منا الطبيب أن نعالج الربو بالتدخين أو الوجود فى أماكن مليئة بالدخان، فيقوم الدخان بتهييج صدورنا أكثر وأكثر؛ فتقوم النخب بتهييج ثقافة الاستبداد عند الأفراد. هذه النخب تمارس حالة من المقايضة السياسية القائمة على الزبائنية (clientalism)، أى مبادلة الجماهير بمكاسب صغيرة من أجل ضمان تأييدها، فيتحول السياسى من رجل الدولة الذى يقود الجماهير نحو الصالح العام، إلى تاجر مواقف ينقاد وراء الأكثر تشدداً والأقل اعتدالاً ناسين أو متناسين أن فشل أى تجربة ديمقراطية وصولاً إلى الحرب الأهلية كانت بسبب سيطرة التشدد وتراجع الاعتدال. ولكن الاعتدال الذى هو فى مصلحة مصر لن يكون فى مصلحة النخبة المزايدة والمقايضة من وجهة نظر المزايدين. والمزايدون هم الأعلى صوتاً وهم «الأهل والعشيرة» ساعة الجد، ولكلٍّ «أهله وعشيرته».
ولنأخذ أمثلة عملية، وسأبدأ بحجة «نرفض الحوار بشروط مسبقة». وهى عبارة قرأتها عن كل النخب العربية المذكورة فى السطر الأول من هذا المقال، وهى تتحدث مع أو عن منافسيها السياسيين. وهى كلمة ظاهرها الرحمة وباطنها الاستبداد.
فى العراق، هناك حالة من الغليان بين العراقيين السنّة بسبب نزعة رئيس الوزراء المالكى إلى الاستناد إلى «أهله وعشيرته» من قطاع واسع من الشيعة، وهو الآن سيكون عليه الاختيار بين التنازل عن السلطة المطلقة أو اللجوء إلى العنف. وإلى أن يتخذ القرار، فإن العراق فى حالة من الشلل السياسى والضعف الاقتصادى وانتشار الفساد وارتفاع البطالة بعد 10 سنوات من التخلص من صدام حسين. وهو بلد فيه نهران وبحر من البترول، وبالتالى لا تنقصه الموارد ومقومات الحياة الكريمة. ولكن دخل العراقيون (تحديداً السنّة والشيعة، وبدرجة أقل الأكراد الذين يحظون بحكم ذاتى) فى حالة من الاستقطاب ثم الاحتقان ثم الغليان فى الشهر الأخير.
وبنفس المنطق يتهم المالكى ومن يناصرونه المتظاهرين ضده بالعمالة والخيانة وأنهم أرباب مؤامرة تحاك ضد العراق «من البعثيين والعملاء والخونة»، يعنى الفلول والثورة المضادة والطرف الثالث.
وعلى نفس طريقة الفريق شفيق، يخرج عزة الدورى، نصير صدام من الإمارات ليدعم «انتفاضة الأحرار من السنّة ضد العملاء». وأصبحت العراق كلها عملاء فى مواجهة عملاء، وكل طرف يرى الآخر عملاء ويرى نفسه وأهله وعشيرته من النبلاء. وسيظل العراقيون هكذا إلى أن يتعلموا كيف يتصرفون بديمقراطية أو حرب أهلية. والرسالة إلى المالكى: لا يمكن أن تكون صدام حسين آخر لمجرد أنك جئت بالانتخابات.
وفى تونس، وبعد اغتيال المناضل شكرى بلعيد، ازدادت الأمور سوءاً، وتتأكد نفس المعضلة وهى أننا غير قادرين على تدمير ثقافة «بن على» لبناء ثقافة «المرزوقى»، فالاضطراب فى قمته، والتخوفات على أشدها، ورئيس الوزراء حمادى الجبالى يجتهد فى تشكيل حكومة خبراء، لكن هذه الخطوة عارضتها حركة النهضة التى ينتمى إليها. وسر محاولة تشكيل حكومة الخبراء أن الحكومة الائتلافية المبنية على نتائج انتخابات أكتوبر 2011 أدت إلى شلل سياسى فى البلاد نتيجة عدم رضا كل حزب عن نصيبه النهائى فى الحكومة من حيث عدد المقاعد الوزارية ومن حيث نوعية الوزارات. ويزيد الأمر سوءاً أن عملية كتابة الدستور متعثرة وستأتى بعدها انتخابات جديدة سواء برلمانية أو رئاسية أو الاثنتان وفقاً للدستور الجديد وهى كلها مسائل خلافية تتراجع أهميتها الآن لصالح المشكلة الأكبر وهى تشكيل الحكومة الجديدة والمدى الزمنى الذى ستعمل فيه.
ويزيد الأمر صعوبة أن النخب السياسية دخلت فى نفس نوعية الجدل الذى رأيناه فى العراق لا سيما مع الاعتداء والتهديدات التى تعرض لها الأعضاء والنشطاء من الحركات العلمانية خاصة خلال المسيرات، ولم تتم معاقبة أى شخص. ويتم تدمير الأضرحة الدينية، حيث قام السلفيون بحرقها فى أنحاء البلاد، ورغم ذلك تُرك الأئمة والدعاة الذين يدعون للعنف فى مساجدهم دون مساءلة. وكانت هناك تقارير كثيرة حول فشل الشرطة فى التحقيق فى عدد من الاعتداءات التى نفذها سلفيون ضد مطالبين بالديمقراطية. هذا جعل الكثير من العلمانيين يعتقدون أن تجاهل حكومة حركة النهضة لتجاوزات الحركات السلفية فى مجتمع دعم الحركة العلمانية لأكثر من ستة عقود، يشير إلى أن الخط الفاصل بين الإسلام السياسى والعنف السياسى غائب أو غير واضح.
أما ليبيا واليمن، فهما تمران بما هو أعقد مما يحدث فى مصر وتونس والعراق، لأسباب كثيرة على رأسها أن القبلية فى هاتين الدولتين هى منطق حياة. والحديث عن ديمقراطية فى هذه الأجواء، وفى ظل نخب من تجار السياسة وليسوا من رجال الدولة، فإن الديمقراطية تكون الساحة الرحبة لمأسسة الانقسامات الأولية والمزايدة بها من خلال الانتخابات ومظاهر المشاركة الشعبية. هؤلاء الناس لا يناقشون السياسات التعليمية والاقتصادية وبناء مؤسسات الدولة، وإنما هم يناقشون كيف تمثل كل قبيلة فى كل مؤسسة من مؤسسات الدولة سواء تنفيذية أو تشريعية مع الرفض التام لأن يتم تطبيق القانون على القبيلة أو أى من ممتلكاتها أو أفرادها البارزين. ولكل قبيلة ميليشياتها المسلحة القادرة على الدفاع عنها ضد مؤسسات الدولة التى إن حاولت أن تفرض على القبيلة القانون، تحول الأمر إلى صراع مسلح كصراع الند للند. ناهيك عن أن الجيش والشرطة نفسهما تحوّلا إلى ميليشيات تعمل على تحقيق مصالحها فى ظل ضعف الحكومة. وعملياً لا يوجد رجل، وربما من هو فى سن المراهقة، فى أى من الدولتين ليس معه قطعة سلاح أو أكثر.
وتمر سوريا بما لا تمر به دولة عربية أخرى حالياً، وهى حرب أهلية بلا قدرة طرف على ترجيح موقفه على حساب طرف آخر. ومن الواضح أن العلويين فى سوريا رجالاً ونساء يقاتلون من أجل البقاء، وأن النظام فى سوريا سوف يقاتل حتى النهاية لأنه محكوم بوضعه الداخلى: إذن هى «يا قاتل يا مقتول».
والغريب أن كل طرف فى نخبتنا يجد قدرة هائلة على توجيه النصح للآخرين بأنّ عليهم بالحوار والمصالحة والعمل المشترك، فمثلاً المالكى رئيس الوزراء العراقى يقول إن فى سوريا «صراعاً طائفياً قديماً بين العلويين والسنّة، وبعد أن وصل العلويون إلى الحكم، أصبحت عملية التخندق ليس من السهولة تجاوزها، والحل الوحيد هو أن يحاول الطرفان أن يبحثا عن نقاط مشتركة بدلاً من أن تتحول المسألة إلى حرب إبادة شاملة، وليس فقط حرباً أهلية». وكنت أتمنى أن يقول رئيس الوزراء العراقى هذا الكلام لنفسه. وبمناسبة الكلام عن «الإبادة الجماعية» فهى ليست بعيدة عن الخيال السياسى، كما قال سفير الولايات المتحدة السابق فى يوغسلافيا قبل تفككها، بيتر جالبرايث، إن «الإبادة الجماعية المقبلة ستكون ضد العلويين فى سوريا بسبب سياسة العقاب الجماعى الذى تتبعه قوات الأسد ضد معاقل المعارضة»، ويزيد الأمر سوءاً بروز دور الجماعات الإسلامية المسلحة فى الصراع، واتساع رقعة نفوذها مثل «جبهة النصرة لأهل الشام»، وطفت على السطح الشعارات ذات الصبغة الإسلامية والدعوات إلى إقامة دولة إسلامية، وحتى الخلافة.
ولم تزل الفصائل الفلسطينية تجتمع فى العواصم المختلفة من أجل التوافق البعيد المنال. ولم نزل فى مصر نترجى الحكومة والمعارضة أن يتوافقا، ولن يتوافقا إلا على أشلائنا حتى تلحق مصر بشقيقاتها.
سؤال أخير، قبل أن أترك حضراتكم: علاقة الثقافة بالديمقراطية هى علاقة شرط مسبق أم هى علاقة نتيجة منطقية؟
بعبارة أخرى، هل وجود ثقافة تقوم على التسامح واحترام الرأى الآخر والنظر للمخالف فى القبيلة أو الدين أو العرق أو الجنس على أنه مساو أخلاقيا للآخرين، كما تنص الآية الكريمة على تكريم الله لبنى آدم، ومن ثم الثقة فى هذا المخالف هى شروط لا يمكن للديمقراطية أن تنشأ بدونها، أم أن المؤسسات الديمقراطية والعمليات المرتبطة بها من تشكيل أحزاب، وعرض برامج وخوض الانتخابات والتصويت وتشكيل حكومات ائتلافية وتعلم مهارات الحلول الوسط هى التى تجعل الثقافة تتغير من أجل استقرار ورسوخ الديمقراطية؟
تقديرى أن كليهما صواب، المجتمعات الأكثر تسامحاً تكون أسرع فى تبنى مؤسسات الديمقراطية والتفاعل معها، ولكن البديل الثانى صواب أيضاً فى حالة اتفاق قيم النخبة على أنه لا بديل عن الديمقراطية. وبما أن نخبتنا شبّت وشاخت على الاستبداد، فالأمل فى النخب الجديدة؛ وإلا ستكون الديمقراطية كعضو جديد غريب يحاول الحالمون زراعته فى جسد يرفضه.
يا نخبة العواجيز المستبدين فى كل ربوع الوطن العربى، أصلحوا أو ارحلوا.
نقلاً عن جريدة " الوطن " .