من يبنى الجسور

من يبنى الجسور؟

المغرب اليوم -

من يبنى الجسور

معتز بالله عبد الفتاح

أتذكر مرة نزلت فيها مع بعض الأصدقاء فى محاولة لوقف التراشق بالطوب بين الداخلية وبعض الشباب، وأتيح لبعض من كانوا يريدون وقف العنف الانتقال بين المعسكرين: معسكر المولوتوف ومعسكر الغاز المسيل للدموع. وبعد أن فشلت الجهود، كالعادة، عدنا إلى نقطة الالتقاء لنقرر بشأن الخطوة القادمة. وكان معنا من ينظر نظرة سلبية للغاية لقيادات الشرطة والجيش، وربما للمؤسستين أصلا، ولكن المثير كان شهادة هؤلاء حين رأوا عددا من جنود الأمن المركزى وبعض الضباط المصابين بجروح فى الوجه والرأس وبعضهم أصابهم شىء من الحريق فى أجزاء مختلفة من الجسم. واتضح لهم أن ما يحدث على كل من الضفتين متقارب لحد بعيد: الدم واحد، الجرح واحد، المصاب واحد، سواء كان من هنا أو هناك. ولكن كل طرف يحكم على الأمور فى حدود ما هو متوافر له من معلومات وتصورات، وفى ضوء ما هو غائب عنه من معلومات وتصورات عن الطرف الآخر. وهذا ليس غريبا، فهذه هى دوائر المعرفة وجدران الجهل التى يتحدث عنها علماء النفس الإدراكى. سياسيا، اللوم يقع بشكل مباشر على من يتخذ من القرارات والسياسات أو يمتنع عن اتخاذ القرارات والسياسات التى تمنع هذه المواجهات التى يروح ضحيتها عدد من أبنائنا. والإدانة تكون أكبر بالضرورة لمن هم فى مواقع السلطة لأن سوء إدارتهم للمشهد وإخفاقهم فى صناعة وصياغة الخيال السياسى وتحديد أجندة وطنية جامعة لكل المصريين هى البيئة الطبيعية لكل هذه المواجهات. هذه مقدمة موضوع أكبر، وهو أن من لم يغادر الميدان قط، ولم يرَ الحكومة فى مصر من الداخل، يطلق الخيال لأحلامهم المشروعة دون أن يكون لديهم الإلمام الكافى بتعقيدات المشهد الداخلى. هؤلاء قدرتهم على الخيال أكبر كثيرا من إحساسهم بالواقع، والكلام نفسه ينطبق على من دخل الديوان ولم يكن شريكا فى الميدان حيث تبدو قراءته للمشهد بعيدة كثيرا عما يتداوله الناشطون من الجيل الجديد. هذه الفجوة فى الإدراك، والفجوة فى الحلم، والفجوة فى الإحساس بالواقع، هى جزء من معضلة المشهد السياسى الذى نعيشه. بل هى الفخ الذى وقعنا فيه بالفعل. نحن بحاجة لنشر ثقافة جديدة تجمع بين القدرة على الخيال (power of imagination) والإحساس بالواقع (sense of reality). مع ملاحظة أن الواقع مؤلم، وسيكون أكثر إيلاما بسبب التردى فى الأخلاق المتفاعل مع التردى الاقتصادى المتفاعل مع التردى الأمنى المتفاعل مع التردى السياسى. والخيال جامح ويزداد جموحا مع المتاجرين بالخيال والذين يصورون أن مشاكل مصر إجرائية بروتوكولية تقتضى «شوية» قرارات فقط. مصر دولة متخلفة. وتخلفها ليس جديدا، هو موروث، ومن يقرأ للجبرتى يكتشف أن تخلفنا الحاضر هو التطور الطبيعى للتردى الأخلاقى الذى كان سائدا من قرنين من الزمن. وبما أننا بصدد من قد لا يجد وقتا للقراءة، طيب ماذا عن مشاهدة أول عشر دقائق من فيلم «لعبة الست» لنجيب الريحانى لنجد فيها تجسيدا لمجتمع الواسطة والغش والتدليس والكذب الذى كان سائدا من مائة سنة. السلطة تدلس وتكذب، طيب ما هذا هو العادى والمتوقع. المعارضة تدلس وتبالغ، طيب ما هذا هو العادى والمتوقع. الكل «يخوّن» الكل، طيب ما هذا هو العادى والمتوقع فى بيئة تسيطر عليها مخاوف أن الدولة تتأخون. الأخونة والتخوين عمليتان سياسيتان وفكريتان يغذى بعضهما بعضا، وتعبران عن مجتمع متخلف فى قدرته على التفكير السوى والقياس النظرى السليم. اجتمعت مع ابن صديق وعدد من الشباب لمناقشتهم فى بعض أفكارهم من قبيل أن «يا ليت كان ما حدث فى سوريا يحدث فى مصر وأن يتم تدمير مؤسسات الدولة لأن كلها فاسدة وأن الجيل الكبير أفسد كل شىء». خلاصة الاجتماع نحن أمام جيل جديد لديه جرأة هائلة فى طرح أفكار عظيمة بعيدة تماما عن القابلية للتحقق فى المدى القصير. ومع ذلك هذا حقهم فى الخيال، وواجبنا أن نساعدهم وأن نساعد أنفسنا فى تغيير الواقع كى يقبل هذا الخيال. مصر أصبحت معسكرين فى كل شىء وبناء الجسور بينهما هو المعضلة الأكبر لاسيما ونحن مقبلون على مصاعب اقتصادية هائلة. نقلاً عن جريدة "الوطن"

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

من يبنى الجسور من يبنى الجسور



GMT 21:28 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

«هي لأ مش هي»!

GMT 21:25 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

الفعل السياسي الأكثر إثارة

GMT 21:22 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

سألوا الناخب.. فقال

GMT 21:20 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

ديمقراطية على المحك!

GMT 21:18 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

عودة ترامب!

GMT 06:10 2024 الأربعاء ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

الجزائري خارج الجزائر

GMT 06:07 2024 الأربعاء ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

الرئيس الجديد... أي أميركا ننتظر؟

GMT 05:06 2024 الأربعاء ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

نصيحة السيستاني الذهبية

نجوى كرم بإطلالات استثنائية وتنسيقات مبهرة في "Arabs Got Talent"

القاهرة - المغرب اليوم

GMT 08:38 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

ميلانيا ترامب تظهر بإطلالة بارزة ليلة فوز زوجها
المغرب اليوم - ميلانيا ترامب تظهر بإطلالة بارزة ليلة فوز زوجها

GMT 17:36 2012 السبت ,15 أيلول / سبتمبر

مجموعة للعناية بالشعر وتقويته

GMT 12:24 2018 الأربعاء ,25 إبريل / نيسان

أولمبيك آسفي يخطط لضم 4 لاعبين في الميركاتو

GMT 17:23 2016 الثلاثاء ,12 إبريل / نيسان

مشوار المنتخب السعودي في تصفيات كأس العالم 2018

GMT 02:35 2018 الإثنين ,05 شباط / فبراير

عفاف شعيب سيدة شعبية في مسلسل "فوق السحاب"
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib