معتز بالله عبد الفتاح
دعونا نعترف أننا مجتمع نجح فى الثورة وفشل فى إدارتها، فقرر أن يخصخصها وفقا لنظرية «إذا وقع بيت أبوك، إلحق خد لك منه قالب» ولكننا أمهر من هذا المثل نحن «ندمر بيت أبينا، حتى نحصل على القالب».
دعونا نعترف أننا مجتمع لم يتدرب على أدوات الديمقراطية ومن ضمنها الحوار والتفاوض والنقاش لأننا مجتمع اعتاد على نمط السمع والطاعة عند البعض، والأوامر الحزبية عند آخرين، أو عدم الاكتراث النابع من اللاوعى والذى تحول فجأة إلى تفاعل سياسى مع واقع شديد التعقيد، البعض يحكم عليه وفقا لمعلومات إما ناقصة أو مغلوطة أو مشوهة. يضاف إلى ذلك انقسام تفاعل حتى وصل إلى الاستقطاب ثم انحرف حتى وصل إلى الاحتقان.
الأصل فى الأمور أن الحوارات والمفاوضات إما مجدية أو غير مجدية، إما جادة أو غير جادة.
غير المجدى وغير الجاد منها نوعان، نمارسهما بمهارة، والمجدى والجاد منها نوعان، أحدهما أسوأ من الآخر، ونحن حين نكون جادين، نكون أسرى الأسوأ بينهما. والكل يحسب أنه يحسن صنعا.
أما النوعان غير المجديين فهما إما حوارات الهدف منها تسجيل المواقف على الخصوم مع التزام غير حقيقى من أى من الأطراف أو منهم جميعا بعدم جديته والآخر هو النقاش والحوارات فى العموميات التى لا طائل من ورائها إلا إذا لحقت بها إجراءات فعلية لضمان تفعيلها.
أولا، حوارات تسجيل المواقف على الخصوم هى السمة الغالبة على مواقف القوى السياسية المختلفة فى مصر، وهو ما لمسته بنفسى فى حوارات كثيرة للغاية قبل انتخابات مجلس الشعب وعلى هامش الجمعية التأسيسية للدستور، وحوارات مؤسسة الرئاسة، بل وأحيانا حوارات قوى المعارضة مع بعضها البعض.
والأهم من هذه الحوارات هو السرعة فى الوصول إلى أجهزة الإعلام من أجل تحميل الطرف الآخر للمسئولية وبسرعة قبل ما يجرى الطرف الآخر مسارعا إلى أجهزة الإعلام لإخبارها بالعكس.
هذا النوع من الحوارات، ليس حوارات وإنما هى أفخاخ متبادلة. وكل طرف يريد الرأى العام أن يضبط الطرف الآخر متلبسا بالجريمة. وهو ما كانت تفعله إسرائيل مع الفلسطينيين لإعطاء الانطباع بأن الطرف الآخر هو المتعنت، وقد نجحت لأنها تملك الوصول إلى أجهزة صناعة الرأى العام العالمى. إذن هى حوارات الهدف منها إحراج الطرف الآخر، وليس إيجاد حل عملى للمشكلات.
النوع الثانى من الحوارات والمفاوضات غير الملزمة وهى التى يكون فيها الكلام فى العموميات التى لا يختلف معها أو عليها كثيرون دون التزامات محددة، وبالتالى لا يمكن تحديد من أخطأ فى ماذا إلا بالحوادث على الأرض. وكان المجلس العسكرى يجيد هذه النوعية من الحوارات بما فيها الحوارات داخل المجلس الاستشارى الذى انسحب منه البعض، ومنهم كاتب هذه السطور، بعد أن بات واضحا أن عمومية الكلام مع غياب الالتزام أفضيا إلى مزيد من الدماء الزكية التى ما كان ينبغى لها أن تسال.
ولم تزل هذه الحوارات غير المفيدة دليلا على أن المجتمع لم ينضج بعد، ولم يزل يستجيب للهتيفة ورافعى الشعارات أكثر من إنصاته لأصحاب المواقف الجادة الحريصة على الصالح العام وليس المكاسب الحزبية أو الشخصية.
يبقى لنا نوعان من الحوار المفيد والمنتج عادة حتى وإن اختلفت الوسائل.
النوع الثالث، وهو نوع من الحوارات والمفاوضات التى تقوم على المساومة وتوزيع العوائد (Distributive) حيث يكون بالفعل هناك عائد محدد ومحدود يتنازع أو يتنافس عليه طرفان أو أكثر مثل مفاوضات من أجل تحديد مرشح معين لمنصب الرئاسة أو لتحديد قوائم الانتخابات التشريعية حيث يكون مكسب أحد الأطراف هو بالضرورة خسارة للطرف الآخر.
هنا يكون كل طرف حريصا على أن يخفى نواياه وموارده وبدائله عن الطرف الآخر أثناء عملية التفاوض حتى يحقق كل طرف أكبر قدر من المكاسب. وعادة ما يقال فى هذا النمط: «اجعل كروت اللعبة قريبة إلى صدرك حتى لا يطلع عليها الطرف الآخر». مثلما هو الحال عند من يلعب الكوتشينة. ولكن المتحاورين أو المتفاوضين فى النهاية مطالبون بالوصول إلى حل ويجتهدون فى ذلك تماما لأن البديل عن الحل المشترك خسائر أكبر.
وما لاحظته فى مصر خلال الفترة الماضية أن المصريين حين يلجأون لهذا البديل، فإنهم يتقربون منه بمنطق «المستغنى» أى الذى يتصور أن المفاوضات ينبغى أن تكون أقرب إلى حوار الإذعان والخنوع حين يسعى طرف ما لإملاء شروطه كاملة على الطرف الآخر سواء على أساس أن الطرف الأول هو «الرئاسة» وأن الطرف الثانى هو «الشعب». ويسعى كل طرف لاتباع تكتيكات مختلفة للضغط والإنهاك والاستنزاف فى محاولة للسيطرة وإخضاع الطرف الآخر مثل تقديم مطالب تفوق بكثير الحد الأدنى المطلوب، وإعلان مواقف غير قابلة للتغيير، استخدام التهديد بالانسحاب من المفاوضات أو تصعيد الموقف، أو التسويف والمماطلة وكسب الوقت وتفويت الفرصة بهدف تعطيل المفاوضات أو إطالة أمدها على اعتبار أن الزمن سيكون هو العامل الأكثر تأثيرا فى القضية أو المشكلة موضوع التفاوض وكذلك فى سير العملية التفاوضية وإدارتها. وعادة ما تكون هذه التكتيكات المتبادلة سهلة الاستخدام حين يكون من يدفع الثمن طرفا آخر، وهو ما نراه بوضوح حيث من يتفاوض أو يرفض التفاوض لا يظن أنه يخسر وإنما الخاسر هم أبناء الوطن ممن يعانون ومعهم جنود وضباط الشرطة والجيش.
وهو نفسه ما حدث حين رفع أحد المنسحبين من الجمعية التأسيسية شعار «خليهم يلبسوه هم» يقصد الدستور، والشعار المضاد من أحد قيادات التيار الإسلامى: «مش هيعرفوا يلووا دراعنا». وهو ما يعنى أننا بالفعل لم نزل نعيش فى مجتمع تغيب فيه آليات الحوار والتفاوض الجاد وتسود فيه قيم رفض الآخر والسعى إلى القضاء عليه.
النوع الرابع هو نوع الحوارات والمفاوضات التكاملية (Integrative) التى تتطلب مساحة من الثقة بين الأطراف وقدرة كل طرف على أن يبحث عن مساحات مشتركة للاتفاق والعمل على ألا يكون العائد محددا ومحدودا وإنما تكون هناك مساحة واسعة من القضايا التى يمكن الأخذ والرد والتفاهم بشأنها وصولا إلى أن يشعر المشاركون فى الحوار والتفاوض بأن عائدا مقبولا قد رجع على كل منهم.
أعيد التأكيد على هذه النقطة الأخيرة وهى أن مهارة المتفاوضين والمتحاورين تقتضى أن تتغير مساحة القضايا المتفاوض عليها على النحو الذى يضمن للجميع نصيبا مقبولا من مطالبه وأهدافه من التفاوض. بعبارة ثالثة المفاوضات، لو أديرت بمهارة، لا تكون حول قضية واحدة وإنما عدة قضايا بحيث تكون التنازلات المتبادلة مقبولة من الجميع. فى هذه الحالة، ترتفع معدلات الثقة، وإن لم تكن مرتفعة فيكون على الطرف الأقوى أن يخلقها بأن يبدأ بالاستجابة لمطالب الطرف الآخر وأن يعظم مساحات الثقة بين الطرفين.
وكتب التفاوض مليئة بالأساليب الممكن اتباعها لتحقيق مفاوضات سياسية ناجحة مثل تعاون الطرفين على أن يحقق كل طرف أهدافه ولكن بأقل تكلفة ممكنة على الطرف الآخر، وأن يقوم كل طرف بتعويض الطرف الآخر مقابل التنازلات التى يقدمها، وأن يقدم كل طرف تنازلات نسبية أعلى فى القضايا الأقل أهمية بالنسبة له، وأن يسعى كل طرف لعدم إحراج الطرف الآخر أمام أنصاره والمتشددين فى تياره، واختيار بدائل جديدة غير البدائل التى يطرحها كل طرف، وأن يقوم الطرف الأقوى باستيعاب مطالب الطرف الآخر كخطوة على طريق بناء الثقة، والاستفادة من المشاورات الجانبية والقنوات الخلفية أو من خلال وسطاء، أو وجود جهات ضامنة يثق فيها الجميع لضمان نجاح المفاوضات.
وأعتقد أن الرئاسة حاولت بعضا من هذا خلال الأسابيع الماضية فى ظل ما عرف بالحوار الوطنى، ولكنها أدارته بنفس الطريقة المصرية التقليدية بلا اتصالات جانبية أو استعدادات مسبقة أو أوراق عمل معدة سلفا أو ابتكار بدائل متعددة غير التى يطرحها كل طرف. والأهم من ذلك برهان على أن المعارضة عددها محدود ونفسها قصير وبينها خلافات حادة.
المعضلة فى الحالة المصرية أننا نعانى من أمراض مركبة تختلط فيها أزمات كثيرة معظمها موروث من عقود طويلة وبعضها مرتبط بتطورات ما بعد الثورة التى افتقدت القيادة فتعددت القيادات، وافتقدت البرنامج، فتعددت البرامج، فأصبحنا فى حالة من خصخصة الثورة ومحاولة تحويلها من ملكية جماعية إلى ملكية خاصة بحزب أو جماعة أو ائتلاف أو أشخاص.
ومع ذلك الأمل لم يزل معقودا على أن نعلم أننا لا نعلم، وأن نعرف أننا لا نعرف، وأن ندرك أننا لا ندرك، وأن نملك مهارات التواضع والترفع والتعلم سعيا لمصلحة أكبر من مصالحنا المباشرة.
نقلاً عن جريدة "الوطن" .