معتز بالله عبد الفتاح
عالم الأفكار يحرك عالم الأشخاص وكلاهما معاً يحركان عالم الأشياء، والسؤال عن الأفكار التى تحرك الدكتور محمد مرسى أثناء رئاسته لمصر باعتباره أولاً مصرياً وباعتباره ثانياً ابناً مخلصاً لتقاليد الإخوان المسلمين.
وكما هو الحال فى مثل هذه النوعية من المقالات التحليلية، فإن هذه محاولة للفهم وليست محاولة للمدح أو القدح. دعونا نبدأ بعدد من المعطيات قبل الوصول إلى الاستنتاجات:
المعطى الأول أن تاريخ مصر فى آخر مائتى عام هو تاريخ انتفاضة المجتمع أو جزء منه لتمكين شخص من مفاتيح الدولة من أجل تبنى مشروع سياسى واقتصادى واجتماعى وثقافى يعلى من شأن الدولة ومؤسساتها ويضيق على الحقوق والحريات قدر المستطاع، ويكون العقد الاجتماعى والسياسى بين المجتمع والدولة أن الدولة مطلقة اليد فى شئون الحكم مقابل أن يعود عائد التنمية على المجتمع.
المعطى الثانى أن تاريخ مصر هو تاريخ انقلاب الحاكم بعد أن يصل إلى السلطة على بعض أو كل من عاونوه فى الوصول إلى السلطة، وهو ما فعله محمد على مع أشراف الأزهر وأعيان الطوائف الذين قادوا حركة الاحتجاج ضد الوالى العثمانى الذى عينه الباب العالى بعد خروج الفرنسيين من مصر ثم فى مرحلة لاحقة كانت مذبحة القلعة فى 1811 أى بعد ست سنوات من وصوله إلى السلطة، وهو ما حاول فعله الملكان فؤاد وفاروق بالتخلص من حزب الوفد وتقريب أحزاب الأقليات لهما، ولكن كانت قيود دستور 1923 من ناحية وشعبية سعد زغلول ومصطفى النحاس من ناحية أخرى حالت دون التخلص التام منهما، والقياس ليس بعيداً عما فعله الرئيس جمال عبدالناصر مع الأحزاب التى كانت موجودة قبل ثورة 1952 ثم التخلص من محمد نجيب ثم تباعاً من عدد من أعضاء مجلس قيادة الثورة لينفرد بحكم مصر، وهو ما فعله الرئيس السادات أيضاً بالتخلص مما كان يسميه مراكز القوى، ولم يحتَج مبارك للتخلص من كثيرين لأنه كان امتداداً لنظام السادات.
المعطى الثالث هو البعد الإقليمى عند الرئيس الذى يأتى من خلفية فكرية طموحة تتصور أن لمصر دوراً يتخطى حدودها، وهذا كان الفرق بين حاكمين مثل محمد على وعبدالناصر وحاكمين مثل السادات ومبارك؛ فلا شك أن محمد على وعبدالناصر سواء لأسباب فكرية أو شخصية كان طموحهما كبيراً لأن تلعب مصر دوراً إقليمياً قائداً، وهو ما تخلى عنه السادات ومبارك بالاكتفاء بتأمين حدود الدولة والبعد عن المغامرات الخارجية.
هناك معطيات كثيرة أخرى، ولكن لأغراض المساحة أكتفى بهذه المعطيات الثلاثة، وأتساءل: أين الدكتور محمد مرسى منها مقارنة بالسابقين عليه.
فيما يتعلق بالمعطى الأول، فإن التاريخ سيكتب بعد عشر سنوات من الآن، أن ثورة مصر، وإن كان من بدأها لم يكن من جماعة الإخوان، لكنها ككل الثورات الشعبية التى اعتمدت الخيار الشعبى عن طريق استفتاءات وانتخابات تحيزت لصالح الأكثر قدرة على الاستفادة من الخطاب الشعبى المرتبط بالهوية من ناحية والأكثر قدرة على تنظيم صفوفه وتعبئة موارده من ناحية أخرى. ولكن حتى الآن لم تتضح ملامح العقد الاجتماعى والسياسى بين المجتمع والدولة بل لا يبدو أن العقد التقليدى القائم على أن الدولة مطلقة اليد فى شئون الحكم مقابل أن يعود عائد التنمية على المجتمع سيصلح، لأن المجتمع شهد قفزة هائلة للأمام فى ما يتعلق بفائض وحيوية المشاركة السياسية، ولو اعتبرنا أن وثائق الأزهر الثلاث ودستور 2012 هى جزء من هذا العقد فلا شك أن أفراد جهاز الدولة لن يصبحوا مطلقى اليد فى إعادة تعريف التوجهات الأساسية للدولة والمجتمع، وهو ما يعنى ضمناً أن أفراد جهاز الدولة بحاجة لتطوير آليات جديدة للتعامل مع الرأى العام والإعلام وفئات المجتمع المتخوفة من البديل المحافظ دينياً وعلى رأسهم الشرائح العليا فى المجتمع والمستثمرون وأقباط مصر بل وهم بحاجة لطريقة مختلفة فى مخاطبة مؤسسات الدولة نفسها وعلى رأسها القضاء والقوات المسلحة، وهما بالمناسبة أهم مؤسستين من مؤسسات الدولة فى ما يتعلق بضمان التداول السلمى للسلطة: فالأولى هى الحكم، والثانية هى الضامن، لأن الشرعية مرتبطة بإرادة الناخبين. منطق أن الرئيس يأمر وأن الدولة والمجتمع يستجيبان حتى لو تحت سيف القانون، فهى ليست الاستراتيجية المثلى. الرئيس بحاجة لظهير مجتمعى خارج إطار «أهله وعشيرته» لأن كل مصرى الآن أصبح جزءاً من «عشيرة» ما وليست بالضرورة عشيرة الرئيس.
إذن فالأدوات التقليدية التى اعتمد عليها حكام المصريين السابقون لن تصلح فى هذا الزمن، والعقد الاجتماعى والسياسى الجديد لا بد أن يقوم على المشاركة فى اتخاذ القرار وتنفيذه وليس الطاعة.
فى ما يتعلق بالمعطى الثانى الخاص بنزعة الحكام للانقلاب على من يساعدونهم فى الوصول إلى السلطة، ويصور البعض أن التاريخ يكرر نفسه فى هذه الجزئية تحديداً بالدور الذى لعبته «الجبهة الوطنية» ممن شاركوا فى ما عرف بتفاهمات فيرمونت قبل انتخابات الإعادة على الرئاسة بأيام كجزء من دعم عدد من القوى الثورية للمرشح الرئاسى محمد مرسى، واعتباره مرشح الثورة فى مواجهة الفريق أحمد شفيق الذى مثَّل النظام السابق. وظهر مصطلح آخر، لا يخلو من دلالة، وهو مصطلح «عاصرى الليمون» أى الذين عصروا على أنفسهم ليمونة لقبول فكرة أن يكون أول رئيس بعد الثورة من جماعة الإخوان المسلمين، وكان الأمل يحدوهم فى أن يلتزم الرئيس بما وعد به والتزم به وكرره حتى بعد انتخابه فيما يتعلق بتعيين نواب وفريق رئاسى على ترتيب معين وحكومة تعبر عن ائتلاف وطنى وإعادة تشكيل الجمعية التأسيسية وغيرها.
وبعد تولى الدكتور مرسى الرئاسة بدا بالفعل فى أول فترة حكمه وكأنه يحاول أن يكون رئيساً جامعاً لكل المصريين بالذات بعد لقائه مع عدد من المرشحين الرئاسيين السابقين وقيادات الرأى والفكر فى المجتمع، ولكن جاء الإعلان الدستورى فى 22 نوفمبر 2012 ليحول الاستقطاب إلى احتقان، ويحول جزءاً من العنف اللفظى إلى العنف المادى والبدنى، وهو ما كنا فى غنى عنه، وكما قلت من قبل إن عدم وصول الجمعية التأسيسية إلى دستور توافقى وانتهاء مدتها سيعطى الرئيس فرصة للوفاء بعهده بتشكيل لجنة دستورية تستطيع أن تستفيد مما أنجزته الجمعية وتتخلص من المواد الخلافية.
هنا بلغ الاحتقان مداه، وتحول من دعموا المرشح مرسى على أجندة ثورية إلى حالة نضالية ضد الرئيس مرسى. ولكن ما المدى الذى يستطيع معه الرئيس مرسى أن يتخلص من خصومه؟ هناك سيناريوهان: الأول أن التراجع عن تفاهمات فيرمونت أقصى المدى الممكن للرئيس أن يفعله مع خصومه لأن الظرف التاريخى فى أعقاب ثورة شعبية حقيقية تجعل أى محاولة للتخلص من الخصوم والمنافسين وكأنه مقدمة لثورة جديدة ضد استبداد جديد. والثانى أن انتخابات مجلس النواب القادمة ستكون هى الفصل فى أى وجهة سيتحرك الرئيس، فلو كانت نسبة المعارضة كبيرة بما يكفى، فلا بديل أمامه إلا أن يحاول أن يخلق أجواء «فيرمونت» جديدة بضمانات أكثر، وهى حقاً مهمة صعبة لأنه من الصعب تحقيق توافق آخر بعد أن فقد المعارضون الثقة فى الرئيس. ولو كانت نسبة المعارضة قليلة (أى فى حدود ما كانت عليه فى انتخابات 2011 أو أقل)، فإن الرئيس لن يبذل جهداً كبيراً فى استرضائها.
أما فيما يتعلق بالمعطى الثالث، الخاص بالبعد الإقليمى فى فكر الرئيس، وبحكم انتماء الرئيس محمد مرسى لجماعة تقول أدبياتها منذ نشأتها بحتمية عودة الخلافة (نتذكر أن الجماعة بعد أربع سنوات من إلغاء الخلافة فى عام 1924) وأن «أستاذية العالم» لها دلالة فى عقول الأبناء المخلصين للجماعة، فإن أول ما يتبادر للذهن أن التوجه العام سيكون فى اتجاه سياسة خارجية نشطة بل إن بعض التقارير الأجنبية تتحدث عن أن وصول رؤساء ينتمون إلى خلفية إخوانية فى عدد من الدول العربية المتقاربة جغرافياً يمكن أن يكون مقدمة لمحاولات التنسيق والتكامل أو حتى أفكار حول تحقيق الوحدة الشاملة بين دول مثل مصر والسودان وليبيا وتونس لأن تقارب قيم النخب عادة ما يغرى بمثل هذه النوعية من المشاريع ولكنه لا يضمن نجاحها. وأشك تماماً فى أن تسعى مصر فى ظل رئاسة الدكتور مرسى للدخول فى أى معارك من أى نوع ما لم يتم الاعتداء على حدودها أو مصالحها الحيوية. وطالما أن مصر لا تسعى لتبنى أجندة خارجية معارضة لمصالح الغرب، فإن الغرب سيسعى دائماً إلى استقرار مصر لأن واحداً من الدروس التى تعلمها الغرب أن العدو المستقر الذى يمكن احتواؤه أقل خطراً من الصديق غير المستقر الذى لا يمكن احتواؤه.
إذن، المعطيات السياسية تؤكد أننا أمام رئيس ورئاسة يتحركون بلا بوصلة واضحة وأن حالة التخبط لا تزل مسيطرة على الموقف وسنظل كذلك إلى أن يتم وضع رؤية حقيقية متكاملة بشأن القضايا المشار إليها وغيرها. الأمل ألا تكون هذه الرؤية معبرة عن «الأهل والعشيرة» وإنما أن تكون معبرة عن «الوطن والمجتمع» بأسره.
نقلاً عن جريدة " الوطن " .