معتز بالله عبد الفتاح
كلاهما مخاض صعب.
هناك رؤيتان مختلفتان للثورة ومداها الزمنى ومتى تهدأ ماكيناتها؛ متى ينتهى قانون القوة ومتى تبدأ قوة القانون. وهل يكون الحكم بعد الثورة لطليعة الثورة (مثل ثورة 1952) أم يكون الحكم وفقاً لآلية ديمقراطية منضبطة بما تعنيه من ثلاثية: ديمقراطية الوصول للسلطة، وديمقراطية ممارسة السلطة، وديمقراطية الخروج منها. وفى الحالتين: لا بد من دستور بعد الثورة حتى تستمر الدولة.
والأصل أن الثورة، كما الحياة، هى محصلة تفاعل الجوانب الانفعالية والمطلقة والحدية التى تتصرف بمنطق إما نكسب كل شىء أو نخسر كل شىء، أو ما أشار إليه الفيلسوف نيتشه باسم الإله (ديونيسوس) عند الإغريق القدماء، وهى إشارة لما يمكن تسميتها بالعقلية الراديكالية، وهو ما يختلف عن الجوانب الحسابية الشعورية القائمة على التعقل والاتزان والبحث عن عناصر القوة فى المنطق الضعيف وجوانب الضعف فى المنطق السليم، أو ما أسماه نيتشه روح الإله أبوللو، أى العقلية الإصلاحية.
فى لحظات الثورات يسيطر المنطق الأول رافضاً المهادنة متهماً أصحاب الحلول الوسط بأنهم رجعيون متخلفون باحثون عن مصالحهم الشخصية أو الفئوية، ولكن الثورة كفعل سياسى واجتماعى لا تستمر طويلاً إلا إذا كانت فى حرب شعواء ضد خصومها أو ضلت الطريق، وفى كل الأحوال يدرك من يقودون الثورة وينخرطون فيها بمنطق «ديونيسوس» أنهم بحاجة لـ«أبوللو» فى مرحلة ما، أى هم وهى بحاجة فى مرحلة ما للعقل الهادئ المتوازن الذى يقوم بعمل حسابات تفضى إلى التحول من هدم القديم إلى بناء الجديد. نحن حتى الآن خلخلنا أسس الدولة، ولم نسقط النظام القديم.
ومع ذلك، لا فضل لهذا المنطق على ذلك أو العكس. كلاهما مطلوبان بتوازن دقيق حتى يمكن البناء عليهما.
فلا يمكن أن ننسى أن هذه العقلية الثورية هى التى قادت ثورة 1919 وفعل الأجداد الكثير مما نعيش بعضاً من ملامحه الآن بما فى ذلك سقوط جرحى وقتلى وقطع السكك الحديدية وتعطيل المواصلات التلغرافية والتليفونية، وكانت جنازات الشهداء من الثوار تؤجج الغضب، وهو ما جعل الإنجليز يطلقون سراح سعد زغلول وصحبه من المنفى، ثم تصريح 28 فبراير سنة 1922، ثم القبول بعد ضغوط بدستور 1923. وهو الدستور الذى هاجمه كثيرون، بضراوة ليست بعيدة عما نراه اليوم، ثم عادوا ودافعوا عنه ضد دستور 1930 الذى كان أكثر استبدادية قطعاً. ومن هؤلاء الدكتور طه حسين الذى كتب ناقداً دستور 1923 قائلاً: «لست أرضى عن هذا الدستور الرضا كله، ففيه نقص وفيه تشويه وفيه نصوص لا بد من تغييرها»، وكان على رأس ما انتقده الدكتور طه حسين النص على أن دين الدولة الرسمى هو الإسلام.
بل إن دستور 1923 صدر رغماً عن أنف كثيرين رفضوه لأسباب مختلفة، فالملك فؤاد لم يكن راضياً عنه لأنه كان يؤسس لبذور الملكية الدستورية بأن يعطى للبرلمان الحق فى تشكيل الحكومة وطرح الثقة بها وهو كان يريد هذا الحق لنفسه.
بل إن سعد زغلول قائد ثورة 1919 رفض تشكيل اللجنة المنوط بها إعداد الدستور ووصفها بأنها «لجنة الأشقياء» بل قاطع «الوفد» الاشتراك فى هذه اللجنة لأنه كان يرى وجوب صياغة الدستور بواسطة جمعية تأسيسية منتخبة وليس بواسطة لجنة حكومية حتى لا يكون الدستور منحة يسهل التلاعب بها لاحقاً.
إذن الملك رفض الدستور، وجانب من المثقفين اعترضوا على بعض نصوصه، وقائد الثورة رفض تشكيل اللجنة التى صاغت الدستور. ومع ذلك خرج الدستور للنور وأصبح علامة فارقة فى تاريخنا على كل عيوبه، وأسوأها فى تقديرى حق الملك فى أن يحل مجلس النواب بقرار منفرد منه وهو ما أساء استخدامه الملك فؤاد بحل مجلس النواب بعد ثمانى ساعات من انعقاده فى 23 مارس 1925 لأنه لم يحترم نصوصه ولا الروح الدستورية الكامنة فيه. وهذا مما جعلنى أقول إننى غير قلق من نصوص مشروع الدستور بقدر ما أنا قلق من العقول التى ستتلقفه وتعمل بمقتضاه مهما أحطناه بقيود ومحاذير.
ورغم كل الانتقادات التى تم توجيهها لدستور 1923، فيذكر التاريخ لوزارة عبدالخالق ثروت أنه نجح فى أن يجبر الملك والإنجليز على قبول الدستور رغماً عن الحرب الشعواء التى كانت تشن ضده وضد لجنته. وعرف الجميع قيمة هذا الدستور والدور الذى لعبته هذه اللجنة حين مرر الملك فاروق ومعه إسماعيل صدقى باشا دستور 1930 الذى كان استبدادياً بامتياز، وناضلت الأمة من أجل عودة دستور 1923 حتى عاد العمل به فى 1935، بل إن البيانات الأولى لثورة 1952 كانت تتحدث عن احترام الدستور، وكان المقصود به دستور 1923.
إذن يبدو أننا أبناء مخلصون لآبائنا. لا نعرف كيف نتفق، ولا نعرف كيف نختلف. ولغة التخوين عندنا نتنفسها كالماء والهواء. ربما أبالغ قليلاً أو كثيراً تحت تأثير ضغوط اللحظة لكن من يقرأ كيف هاجم الأحرار الدستوريون الوفديين لأنهم قبلوا دخول انتخابات 1924 بعد أن عارضوا وقاطعوا لجنة دستور 1923 ثم رفضوا الدستور ذاته يعرف أن الاتهام بالعمالة والتخوين والتهديد بأن التاريخ لن يرحم «وأنك سقطت من نظرى» والكلام الذى يقال فى هذه المناسبات شائع وكأننا لا نعرف تاريخنا ولا نعرف كيف نختلف ونحترم وجهات النظر الأخرى.
لكن الملفت للنظر أن سعد زغلول تخلى عن عقلية «ديونيسوس» الراديكالية وتبنى عقلية «أبوللو» الإصلاحية حين رد على منتقديه من الأحرار الدستوريين القائلين بأن موقفه يتسم بالنفاق والانتهازية لأنه ينفذ ما يستنكر. قال سعد: «إن الاستنكار شىء والتنفيذ شىء آخر».
وأياً ما كان رأينا فى ما فعل سعد باشا أو ما فعل ثروت باشا، فبمنظورنا الآن نسأل: هل لأحدهما فضل عن الآخر؟ أم أن اقترابهما معاً، كل بطريقته، هو ما صنع التاريخ الذى عاشه الأجداد وندرسه الآن؟
إذن النضال من أجل دستور أو النضال ضده له سوابقه فى تاريخنا. والمبالغة فى الرفض والمبالغة فى القبول لاحقاً حدث من قبل. ولكن كل هذا أمر، وغياب التوازن السياسى على الأرض هو المعضلة الكبرى.
هناك مسئولية على قوى اليسار وعلى القوى الليبرالية وعلى القوى القومية أن توجد بين الجماهير بمعدلات تقنعهم برؤيتها وتبصرهم ببرنامجها. لا أعتقد أن المحتوى الفكرى أو البرامجى للقوى المحافظة الدينية أفضل أو أعمق من نظيراتها اليسارية أو الليبرالية أو القومية، لكن المعضلة فى غياب القيادة والرؤية ومهارات التواصل السياسى التى تضع كل طرف فى وزنه الطبيعى.
ولعلها بداية موفقة للغاية أن تعلن القوى الليبرالية واليسارية عن مشاركتها فى الاستفتاء وأنها ستقول «لا» للدستور. وهذه مقدمة مهمة حتى تستعد للانتخابات البرلمانية بعد شهرين إن أُقر الدستور، أو أن تساهم بفعالية فى كتابة الدستور الجديد إن لم يُقر هذا الدستور. ولكن دعونى أهمس فى أذنهم ببعض الملاحظات عسى أن تفيد:
أولاً، ليس من المنطق فى شىء ونحن ننتقد دستوراً ألا نرى فيه شيئاً إيجابياً واحداً؛ لأن شيطنة الشىء تنال من مصداقية المتحدث. أكيد هناك ولو شىء واحد إيجابى نشير إليه، لا أقول من باب الإنصاف، ولكن من باب حسن السياسة وخلق مساحة من المصداقية.
ثانياً، نعم لا بد من الاستجابة لنبض الشارع، ولكن المتوقع من النخب كذلك أن توسع دائرة البدائل المتاحة للجماهير التى يحركها الغضب بمنطق ديونيسوس. لقد رأينا ديونيسوس الراديكالى ولم نر أبوللو الإصلاحى بين معظم القيادات الرافضة للجمعية وللدستور، إلا فى حدود اقتراح العودة لدستور 1971 الذى كانوا قد سبق أن رفضوه فى استفتاء 1971 ثم رفضوا قبول أغلب الناس له، وها هم الآن يعودون إليه بعد أن انتهت المباراة. الثائرون عادة يريدون ديونيسوس، ولكن من يعطون أصواتهم فى الانتخابات والاستفتاءات يريدون أبوللو أيضاً.
ثالثاً، الانسحاب من أى فعالية والخروج منها له مخاطره. وهو ما جعل جرامشى (الفيلسوف الماركسى الإيطالى) يتحدث عن حروب المناورة (أى الاستفادة من الثغرات المتاحة) مقارنة بحروب المواقع (أى الدخول فى مواجهات شاملة). أعرف أن هناك أسباباً شخصية وسياسية وحزبية ووطنية جعلت من انسحب من الجمعية التأسيسية قد انسحب ومن قاطع ولا يزال يقاطع الحوار الوطنى فى الرئاسة يقاطع. ولكن ما العائد السياسى على الأمة من كل ذلك؟ أتصور التكلفة والعائد الشخصى والحزبى من كل قرار. ولكن ماذا كسبت مصر غير أن بعضاً من أبنائها سجلوا مواقف ضد مجموعة أخرى وظهر دستور كان يمكن أن يكون أفضل شكلاً و/أو مضموناً لو كنا شاركنا فيه جميعاً؟
رابعاً، لا يوجد عندى أى تعاطف مع مجموعة القرارات التى اتخذها الرئيس مرسى بل مع القرار الذى لم يتخذه بدعوة المنسحبين من الجمعية لمناقشة المواد الخلافية كما وعد. كما أننى لا أعرف ما الذى حدث فى الأيام الثلاثة السابقة على يوم الإعلان الدستورى الذى صدر فى 22 نوفمبر 20122، كما أننى لا أعرف حتى الآن ما الذى حدث فى الأيام الثلاثة الفارقة بين البيان 28 من المجلس الأعلى للقوات المسلحة الصادر فى 27 مارس 2011 والذى أكد فيه المجلس العسكرى أن الانتخابات فى موعدها خلال ستة أشهر وأنه لن يظل فى السلطة إلى ما بعد 2011، وبين الإعلان الدستورى الذى صدر فى 30 مارس من نفس السنة. أيام معدودات جداً سبقت الإعلانين الدستوريين وكلاهما خطأ دفعنا وسندفع ثمنهما غالياً لفترة طويلة قادمة.
أياً ما كان موقفنا من الاستفتاء، فسيكون بعد الاستفتاء أيام أخرى علينا أن نستعد لها بألا نميل كل الميل وأن نرى الفرص المتاحة مع كل بديل. وليحفظ الله مصر من كل أعدائها ومن بعض أبنائها أيضاً.
نقلاً عن جريدة "الوطن"