مصر التى يصنعها الدستور الجديد

مصر التى يصنعها الدستور الجديد

المغرب اليوم -

مصر التى يصنعها الدستور الجديد

معتز بالله عبد الفتاح

سنكون مطالبين باتخاذ قرارات تتعلق بقبول أو رفض مشروع الدستور المطروح علينا. ولنا الحق فى ما يتعلق بالرفض أن يكون بمناقشة الدستور ودحضه وبيان العوار فيه ثم التصويت السلبى ضده أو يكون بالمقاطعة ورفض مناقشته من حيث المبدأ. ولكن فى مثل هذه اللحظات علينا أن نكون حذرين من أن يكون الدستور خطوة نحو ترسيخ الاستبداد، وهو ما يقتضى أن نسأل عن «نوع» الديمقراطية التى يسعى الدستور إلى بنائها. ذلك أن كل الديمقراطيات ليست على قدم المساواة من حيث احترامها لحقوق الإنسان ومن حيث قابليتها للاستمرار. لذا احتاج دارسو الديمقراطية أن يستخدموا صفات متعددة للتفريق بينها؛ فمثلا هناك وصف للديمقراطية الإجرائية (وبعبارة أخرى الديمقراطية الشكلية) باعتبار أنها أداة لما يسمى بديكتاتورية الأقلية الحاكمة. كى تكون الديمقراطية إجرائية فهى تحتاج إلى إجراءات الديمقراطية من انتخابات وأحزاب وعملية تصويت، ولكن تظل الحقوق والحريات الأساسية للمواطنين تخضع لإرادة الأقلية الحاكمة. إذن توجد مؤسسات ديمقراطية قانونية تتراضى أطراف العملية السياسية على أنها مصدر الشرعية، بيد أن من يحكم ينتهك هذه المؤسسات عندما يجد نفسه بحاجة لهذا. وهناك أمثلة معاصرة متنوعة لهذه الديمقراطية الإجرائية (ولها اسم أكثر تعقيدا وهو التسلطية التنافسية) بين صربيا تحت حكم ميلوسوفيتش وروسيا تحت حكم يلتسين وبوتين وأوكرانيا تحت حكم كوشما وبيرو تحت حكم فوجيمورى. وما يجمع هذه النظم أنها تبنت استراتيجية الانفتاح السياسى المحدود أو التكتيكى كمحاولة للتكيف مع الضغوط الداخلية والخارجية بإعطاء بعض التنازلات السياسية الشكلية مع زيادة إنفاقها على الأمن وأجهزة الإعلام واهتمامها بآليات الضبط السياسى. وهذا النوع من الديمقراطية عادة ما يرتبط بوجود دستور ينال من حقوق الأفراد، حتى وإن ذكرها، ويجعلها متوقفة على تنظيم القانون لها، وعدم استقلال القضاء على أى نحو كان لأن القضاء عادة ما يكون هو ملجأ قوى المعارضة والأفراد ضد استبداد المستبدين. وهو ما سيقتضى أن نبحث فى هذا الأمر فى الدستور الجديد. ولو وجدت سنرفضها. وتتحول هذه الديمقراطية إلى ديمقراطية شمولية (أو بعبارة أخرى ديمقراطية أصولية)، حين يضاف إلى ما سبق متغيران: أولا أن الأقلية الحاكمة مدعومة بأغلبية ثابتة لا تتغير ومنحازة فى دعمها فى مناخ شديد الاستقطاب لأسباب دينية أو عرقية، فكل سينهالى فى سيريلانكا سيعطى صوته لسينهالى مثله كى يحافظوا دائما على الأغلبية الديمقراطية الشمولية التى تمكنهم من السيطرة التامة على مقدرات الحياة هناك ضد الأقلية من التاميل الذين يتصرفون على نفس النحو ولكن فى الاتجاه المقابل. ثانيا وجود «اليمين المتطرف» بقيمه وتوجهاته الدينية (بما يفضى إلى يمينية طائفية) أو بقيمه وتوجهاته العرقية (بما يفضى إلى يمينية عنصرية). وهنا تتحول الديمقراطية نفسها إلى أداة قمع منظم للأقلية سواء العرقية أو الدينية. وهنا تنتفى قيمة الديمقراطية من الأساس لأن هناك انتهاكات ممنهجة لحقوق الأقليات والمخالفين فى الرأى واستخدام أدوات العنف والتشويه وإثارة الرأى العام ضد الأقليات وتخويف الأغلبية من التدخلات الإقليمية والدولية وكبت الحقوق والحريات لأن «الأقلية عملاء للخارج». ولو سأل أحدنا بعض الكرد ممن عاشوا فى ظل حزب البعث العراقى أو حتى فى ظل أتاتورك فسيستويان عندهما فكلاهما «شمولى» من وجهة نظر الكرد ولكن أحدهما شمولى قبيح الوجه وتسلطى التوجه (حزب البعث)، والآخر يرتدى عباءة الديمقراطية (النموذج التركى على عهد أتاتورك) فى تعاملهما مع الكرد. وهو نفس ما كان عليه الأمر عند الديمقراطية الشمولية (أو العنصرية) التى مارسها البيض فى جنوب أفريقيا. بل إن البعض يعود إلى أثينا وسيراكيوز القديمتين ليقول إنهما كانتا ديمقراطيتين شموليتين لأنهما استخدمتا الديمقراطية فى كبت واستعباد المرأة والأقليات دون السماح لهما بأى حقوق سياسية على الإطلاق. وهنا يكون الدستور رافضا تماما لوجود تعددية سياسية وحزبية، ويضع قيودا هائلة على حرية الرأى والتعبير، ويضع الضمانات الدستورية لاستمرار حزب واحد فى السلطة بلا قيود، وينص على ما يؤدى إلى عنصرية شديدة فى مواجهة غير المنتمين إلى هذه الأغلبية. ولذلك علينا أن نبحث فى الدستور الجديد عن مثل هذه المواد كى نرفضها. يبقى أخيراً ما يسمى بالديمقراطية الليبرالية، وليس المقصود هنا الأيديولوجية الليبرالية التى يتبناها فصيل دون آخر واتخذت معانى سلبية بحكم ارتباطها بشخصيات معينة مصريا وعربيا. وإنما المقصود هو الموقف الفلسفى والسياسى الذى لا يتضمن أن أحدا ينظر باستعلاء أخلاقى أو سياسى للآخر الشريك له فى الوطن بغض النظر عن الاختلاف العرقى أو الدينى أو الأيديولوجى. وهو ما ضمن لأوروبا والعالم الغربى بدءا من عصر التنوير بصفة عامة، على كل ما فيها من تناقضات، ألا تنهار. فى هذا النموذج يحق للأغلبية بحكم الديمقراطية أن تعتقد وتقرر ما تشاء لأن الديمقراطية هى حماية حقوق الأغلبية من استبداد الحاكم الفرد وتسلط الأقلية الحاكمة أما الليبرالية فهى حماية الأفراد والأقليات (السياسية، العرقية، الدينية) من استبداد الأغلبية. وهذا تطبيق مباشر لتعديلات الدستور الأمريكى العشرة الأول والمسماة بميثاق الحقوق المدنية (Bill of Rights) والذى أقر فى عام 1791 بناء على اقتراح جيمس ماديسون الذى اعتبر أن الديمقراطية ستنهار إن لم تكن ليبرالية. ومن ضمن هذه الحقوق الحق فى الاعتقاد والتعبير والتقاضى والتجمع والحركة وأن تكون الدولة محايدة دينيا أى أنها لن تتدخل لصالح دين ضد دين لأن تاريخ أوروبا الذى تعلم منه هؤلاء كان مخضبا بالحروب المليونية التى استمرت لعقود مثل الحروب الدينية فى الفترة من 1618 وحتى 1648. هى إذن تعديلات ليبرالية أُقِرّت ديمقراطيا لتضع قيودا على الديمقراطية. فهى ليبرالية لأنها تعطى الأفراد حقوقا ترتبط بهم كبشر بغض النظر عن موافقة الأغلبية عليها أم لا. وقد تم إقرارها ديمقراطيا لأن المواطنين الأمريكيين وافقوا عليها فى تعديلات دستورية تقول إن المواطنين الأمريكيين سيمتنعون مستقبلا عن انتهاك حقوق الإنسان الأمريكى الأساسية حتى لو كان هذا الانتهاك يتم بقرار من الأغلبية، لأنه سيكون قرارا ديمقراطيا غير ليبرالى بما يتناقض مع الدستور وبالتالى سيصبح غير دستورى إلا إذا تم تعديل الدستور بما يسمح بالنيل من هذه الحقوق أو أعيد تفسير نصوصه من قبل المحكمة الدستورية العليا. ولذلك علينا أن نتأكد من عدة أمور: أولاً، نتأكد أن «مواسير» الماكينة السياسية التى صممها الدستور الجديد (بغض النظر عن اختيار الجماهير لنوع السائل الذى سيمر فى هذه المواسير، أى بغض النظر عمن يكسب ومن يخسر الانتخابات) سليمة فى بنيتها من حيث ديمقراطية الوصول إلى السلطة، وديمقراطية ممارسة السلطة، وديمقراطية الوصول إلى السلطة. وفى كل ذلك يكون هناك درجة عالية من احترام الحقوق والحريات، درجة عالية من الرقابة المتبادلة بين مؤسسات الدولة، درجة عالية من تعدد مراكز صنع القرار وغير ذلك مما أقرته النظم السياسية فى العالم. ثانيا، علينا أن نفكر هل الدستور الجديد سيعطى الفرصة لأى طرف (محافظ أو ليبرالى) كى يحول الديمقراطية الإجرائية إلى ديمقراطية شمولية. أنا هنا لا أتحدث عن مخاوف وهواجس أنا أتحدث عن مواد الدستور. ثالثا، أرجو أن نتوقف عن التفكير بالتبعية لشخص أو لجهة كأن يقبل ويدافع أنصار التيار المحافظ عن الدستور الجديد بغض النظر عن محتواه ويرفضه أنصار التيار الليبرالى حتى قبل قراءته. رابعا، الدساتير شرط ضرورى ولكنها ليست كافية لتحقيق الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان. دساتير دول كثيرة، لاسيما فى دول أوروبا الشرقية على عهد الاتحاد السوفيتى، كان فيها من النصوص الدستورية التى كانت كثيرا ما تنتهك تحت أى اسم كان أو مبرر كان. لذا مع الدستور نحن بحاجة لرأى عام واع ومسئول. هناك معضلة بالفعل أن الكثير من السياسيين وقادة الرأى من المثقفين والإعلاميين يبالغون لدرجة تفقدهم مصداقيتهم وتخلق حالة من التردى فى الحوار يضيف للحياة السياسية مزيدا من التعقيد. خامسا، تخيلوا نظريا لو كان فى مصر دستور مثل الدستور الإيرانى، وانتخب المصريون لعدة دورات متتالية الليبراليين فى السلطة، فى البداية سيقف الدستور عقبة أمامهم، ولكن ما أسهل أن يقوموا بتعديل مواده وصولا إلى دستور ليبرالى إذا كانت هذه هى إرادة الناس؛ مع ملاحظة أن الدستور الإيرانى أصلا لن يسمح بوصولهم للسلطة، وهو أيضاً أمر نحن بحاجة لدراسته فى الدستور الجديد، هل يمنع الدستور الجديد وصول أحد إلى السلطة إذا أراده الناخبون؟ ولنتخيل فى المقابل أكثر دساتير العالم ليبرالية فى النرويج أو فنلندا سيطبق فى مصر ولكن انتخب الناس بوضوح ولفترات متتالية السلفيين للوصول للسلطة. سينجح هؤلاء تباعا فى تعديل الدستور ليكون سلفيا. إذن من الناحية العملية الدستور كتاب كتبه بشر ويفسره بشر ويغيره بشر ويلتزم به بشر أو يخرج عليهم بشر. لذا بالإضافة إلى الدستور لا بد من وجود ثقافة دستورية. وهذا ما نحن فى حاجة إليه. علينا واجب لا بد من القيام به: علينا قراءة الدستور بأنفسنا (إن لم نكن قد اتخذنا موقفا مبدئيا بأنه دستور معيب من حيث المبدأ ولا مجال للقراءة). هذه فرصة تاريخية ليس فقط لنعرف عن مشروع الدستور، ولكن كذلك لنطور ثقافة دستورية وآليات محترمة للحوار العقلانى حول مستقبل البلد. نقلاً عن جريدة "الوطن"

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

مصر التى يصنعها الدستور الجديد مصر التى يصنعها الدستور الجديد



GMT 10:34 2024 الإثنين ,23 كانون الأول / ديسمبر

بجعة سوداء

GMT 10:32 2024 الإثنين ,23 كانون الأول / ديسمبر

تركيا في الامتحان السوري... كقوة اعتدال

GMT 10:31 2024 الإثنين ,23 كانون الأول / ديسمبر

تنظير في الاقتصاد بلا نتائج!

GMT 10:29 2024 الإثنين ,23 كانون الأول / ديسمبر

لبنان... إلى أين؟

GMT 10:27 2024 الإثنين ,23 كانون الأول / ديسمبر

جنبلاط والشرع وجروح الأسدين

GMT 10:25 2024 الإثنين ,23 كانون الأول / ديسمبر

عن «شاهبندر الإخوان»... يوسف ندا

GMT 10:06 2024 الإثنين ,23 كانون الأول / ديسمبر

المثقف وزرقاء اليمامة وكناري المنجم

GMT 10:04 2024 الإثنين ,23 كانون الأول / ديسمبر

تطابق من سبايك لى إلى هانى أبو أسعد!!

الملكة رانيا تربعت على عرش الموضة بذوقها الراقي في 2024

عمان - المغرب اليوم

GMT 15:56 2024 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

الوجهات السياحية المفضلة للشباب خلال عام 2024
المغرب اليوم - الوجهات السياحية المفضلة للشباب خلال عام 2024

GMT 03:18 2024 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

أحمد السقا يكشف موقفه من تمثيل ابنته ومفاجأة عن ولاد رزق
المغرب اليوم - أحمد السقا يكشف موقفه من تمثيل ابنته ومفاجأة عن ولاد رزق

GMT 17:41 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

لا تتردّد في التعبير عن رأيك الصريح مهما يكن الثمن

GMT 08:33 2020 الثلاثاء ,06 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم برج الحوت الجمعة 30 تشرين الثاني / أكتوبر 2020

GMT 16:23 2020 الأربعاء ,01 كانون الثاني / يناير

يحاول أحد الزملاء أن يوقعك في مؤامرة خطيرة

GMT 18:27 2017 الأربعاء ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

ميداليتان للجزائر في الدورة المفتوحة للجيدو في دكار

GMT 17:40 2019 الجمعة ,15 تشرين الثاني / نوفمبر

نجم ليفربول يشعل مواقع التواصل بمبادرة "غريزية" غير مسبوقة

GMT 14:14 2018 الثلاثاء ,20 شباط / فبراير

متزوجة تعتدي على فتاة في مراكش بسبب سائح خليجي

GMT 10:41 2018 الجمعة ,26 كانون الثاني / يناير

عروض فرقة الفلامنكو الأندلسية على مسرح دونيم الفرنسي

GMT 16:22 2018 الإثنين ,22 كانون الثاني / يناير

جدول أعمال مجلس الحكومة المغربية في 25 كانون الثاني
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib