معتز بالله عبد الفتاح
اعتادت دراسات «القيادة» على التفرقة بين متخذى القرار المدفوعين بالشعبية والجماهيرية وأولئك المدفوعين بالمصلحة العامة وبُعد النظر، وأطلق على الفئة الأولى «سياسيين» وعلى الفئة الأخرى «رجال دولة»، وهى تفرقة لها حظ من التاريخ؛ فمثلاً كان إبراهام لينكولون واحداً من تلك الزعامات التى نالت نصيباً وافراً من الانتقادات بل والحنق خلال فترة حكمه بعد أن اتخذ قراراً كريهاً على معظم الأمريكيين آنذاك، وهو الدخول فى حرب مع ولايات الجنوب، وهى الحرب التى استمرت أربع سنوات ونصف السنة، مات خلالها 625 ألف أمريكى، وكان واحد من كل خمسة أمريكيين إما مصاباً أو قتيلاً فى هذه الحرب، كان هدف الرجل هو حفظ الاتحاد من الانهيار.
هذا الرجل آنذاك لم يكن «سياسياً» بارعاً وفقاً لرؤية معاصريه، وانتهى به الحال أن مات مقتولاً، ومع ذلك فإن جميع الباحثين والمحللين السياسيين الدارسين للأربعين ونيف من الرؤساء الأمريكيين يضعون هذا الرجل سابقاً أو تالياً لجورج واشنطن كأعظم رئيس أمريكى، كان رجل دولة حفظ الدولة وضمن لها الاستمرار وإن كرهه بعض الكارهين فى حياته.
الرئيس الأمريكى جيرالد فورد كان نموذجاً للرئيس الفاشل سياسياً خلال فترة حكمه الممتدة من 1974 حتى 1977، رغماً عن أن تقييم معظم المحللين له الآن أنه اتخذ واحداً من أهم القرارات التى حفظت التقاليد الجمهورية الأمريكية، وكان هذا القرار هو أنه أصدر عفواً شاملاً عن الرئيس السابق نيكسون الذى كانت كل الأدلة تشير إلى تورطه فى حادثة التجسس على مقر الحزب الديمقراطى ثم كذبه بأنه لم يكن على علم بهذا، قرار العفو عن نيكسون كان فى لحظتها وفى الأيام التالية عليه من أقل القرارات التى اتخذت شعبية، ووصفه كثيرون آنذاك بصفات نستخدمها الآن فى وصف بعض سياسيينا، ولكن بعد أن مرت فترته بنجاح، ينظر الناظرون لتلك المرحلة ليقولوا: صدق فورد حين طوى صفحة نيكسون بسرعة وجعلنا نركز فيما هو أهم، كان رجل دولة حفظ التقاليد الجمهورية وتقبل أسهم النقد كى تنجو بلاده، ولو أراد شعبية زائفة لجعلها قضية اليوم والغد ولتحول إلى أيقونة سياسية يحبها الناس بمشاعرهم ثم يتبين لهم لاحقاً أنهم أضاعوا الوقت والعرق والجهد فيما لم يكن منه طائل.
بل إن من يقرأ ما كتبه الجبرتى عن فترة حكم محمد على يدرك أن الرجل لم يكن ينظر إليه آنذاك من قبل أجدادنا على نحو ما ينظر إليه باعتباره مؤسس مصر الحديثة بسبب قرارات كثيرة سواء تتعلق بنظام الضرائب أو التجنيد الإجبارى، لكن تمر الأيام ليصبح علامة فارقة بين السابقين واللاحقين عليه.
هل يفعلها الدكتور مرسى؟
الدكتور مرسى عليه مسئولية خطيرة وهى إما أن يكون «الرئيس المؤسس» لمصر ما بعد الثورة أو مجرد رئيس انتقالى إلى أن يأتى الرئيس المؤسس الحقيقى، ولهذا هو بحاجة لأن يكون صاحب موقف فى القضايا الخطيرة التى سيكون لها تأثير طويل المدى، وعلى رأسها قضية الدستور، جاء فى هذا المكان منذ أكثر من أسبوعين تحذير واضح وصريح بأن الجمعية التأسيسية تواجه خطراً شديداً يرتبط بقدرتها على تحقيق التوافق، وشئنا أم أبينا ستكون هناك مسودة دستور (حال حل الجمعية) أو مشروع دستور (حال اكتمال عمل الجمعية) ويفترض فيه أن يكون نقطة البداية فى مصالحة وطنية وليس سبباً جديداً من أسباب الصراعات الحزبية، وسيكون على الرئيس أن ينظر إلى هذا المشروع بعين رجل الدولة المسئول عن وثيقة تأسيس وتوافق وليست وثيقة صراع وتراشق، قدمت وقدم غيرى مقترحات كثيرة للخروج من المأزق بما فيها حذف المواد المثيرة للجدل والعودة لأصلها كما كان فى دستور 1971 لو لها أصل فيه، أو حذفها وتركها للمشرِّع والتقاليد الدستورية المستقرة.
هل يتصرف الدكتور مرسى كرجل دولة أم كسياسى؟ القرار له.
نقلاً عن جريدة "الوطن"