معتز بالله عبد الفتاح
ما يحدث من اعتداءات إسرائيلية على غزة لن تكون الأخيرة لأسباب كثيرة؛ بعضها مرتبط بالانتخابات الإسرائيلية القادمة ورغبة اليمين المتشدد فى إثبات أن الخطر قادم وأن وجوده فى السلطة ضرورة وأن «معركته ضد الإرهاب» كما تقول الصحف الإسرائيلية لم تزل مستمرة قبل التفكير بمنطق أن هناك «شريكا فلسطينيا مستعدا للسلام» كما يقولون. وبعض الأسباب مرتبط بالمحور الإيرانى-الحمساوى (وبينهما شيعة العراق وسوريا وحزب الله) الذى هو فى صراع وجودى مع محور إسرائيلى-أمريكى وأياً ما كانت تحليلاتنا بشأن هل إسرائيل تحرك أمريكا أم العكس، فالمعطى التاريخى يؤكد أنهما يد واحدة على من يعاديان.
السؤال: أين ستكون مصر فى مرحلة حكم الإخوان؟ هل ستنضم للمحور الإيرانى-الحمساوى، أم ستظل على حيادها، السلبى أحيانا والإيجابى أحيانا، الذى اعتدناه على عهد الرئيس مبارك؟
وأرجو أن يكون واضحا أن منطقتنا كانت ولم تزل موضوع دراسة وهندسة استراتيجية يخطط لها فى العواصم الغربية. ولا يزال هناك يمين محافظ فى أمريكا كان يتمنى فوز «ميت رومنى» حتى تقدم الولايات المتحدة على «قطع رأس الحية» ويقصدون إيران بحيث يخسر الحمساويون ومعهم حزب الله حليفهم الأساسى فى المنطقة بشرط أن تظل مصر بعيدة عن الالتحاق بالمحور المعادى لإسرائيل.
ولم تزل إسرائيل تعمل على إقناع الأمريكان بتوجيه ضربة إجهاضية للبرنامج النووى الإيرانى. ويرى بعض المحللين العسكريين الأوروبيين أن أوباما لم يستبعد تماما خطة ضرب إيران بدليل المناورات العسكرية وتحركات الأساطيل التى تقوم بها إسرائيل والولايات المتحدة، وما يرتبط بهذه التحركات والمناورات من تصعيد التسريبات التى تركز على أن الإدارة الأمريكية لن تسمح بأى تهديد لوجود وأمن إسرائيل لكنه لم يعطها الإذن بعد باتخاذ اللازم من الإجراءات التى تشمل سلامة الدولة العبرية ضد الخطر الإيرانى المتصاعد.
ثانيا هناك مخاوف متزايدة فى واشنطن من أن الثورات العربية انحرفت عن طريقها بأن أعطت «أعداء السلام مفاتيح السلطة ومن ثم الحرب». وهناك من يتهم أوباما وفريق عمله بأنه فعل أسوأ مما كان ينتقد به الذى تبناه اليمين المحافظ على عهد بوش الآن حيث كان الهدف المعلن هو إعادة تشكيل الشرق الأوسط الكبير على أسس أكثر «ديمقراطية» كجزء من فكر المحافظين الجدد القائم على التفرقة بين «الاستعمار الردىء» و«الاستعمار النبيل»؛ فمن وجهة نظر اليمين المحافظ أن الإنجليز والفرنسيين حينما تركوا المنطقة خلفوا دولاً هشة وحكومات مستبدة، عكس «الاستعمار النبيل» الذى قادته الولايات المتحدة فى اليابان وألمانيا وبنما وغرينادا. فلو كان الإنجليز تركوا الحكم فى مصر لحزب الوفد مثلا بدلاً من حكم العسكر لكانت المنطقة فى وضع أكثر استعداداً لقبول إسرائيل والتحالف مع الديمقراطيات الغربية أثناء الحرب الباردة.
ولكن ما حدث مع الثورات العربية، من وجهة نظر ناقدى أوباما ومؤيدى إسرائيل، أنه سيتم استبدال حكومات استبدادية مهادنة للغرب وإسرائيل، بحكومات «فاشية دينية» أكثر استبدادا وأكثر عداء للغرب وإسرائيل، على حد وصفهم.
ويرى هؤلاء أن المنطقة تقترب أكثر وأكثر من التدخل الجراحى بمشرط البنتاغون والذراع الطويلة لإسرائيل ضد إيران مثلما فعلت فى 1967 مع مصر وسوريا، وفى عام 1981 بضرب المفاعل النووى العراقى. طبعا الظروف مختلفة ولكن الواضح أن سياسة المحاور فى المنطقة ستستمر وأن مصر الآن أصبحت فى وضع صعب لأنها أقرب إلى المحور الذى تملى عليها التزاماتها الأخلاقية والتاريخية أن تقف بجواره لكنه لا شك المحور الأضعف وهو المحور الذى يضمن الحقوق المشروعة للشعب الفلسطينى.
ما يحدث فى غزة سيكون مقدمة لتصعيد أكبر ضد المحور الإيرانى الحمساوى وحزب الله بعد أن فقد هذا المحور أحد أهم عناصره وهو سوريا. وسنشهد فى فترة قادمة دقاً لطبول الحرب كنوع من دفع إيران وحلفائها إلى مصيدة استراتيجية ثلاثية الأضلاع: الاحتواء (containment) والاستنزاف (depletion)، والاختراق (penetration).
وهذا ليس بعيداً عما فعلته الولايات المتحدة فى العراق إذ كانت الفترة من 1991 وحتى الغزو فى 2003 مساحة زمنية كافية لوضع العراق تحت ضغط دبلوماسى وعقوبات دولية أجهدته وأضعفت من قدرته على المقاومة عسكرياً ونفسياً. إذن لا بد من إجهاد «العدو» من وجهة النظر الأمريكية والإسرائيلية، ولا بد من عزله عن حلفائه التقليديين ومنع انضمام حلفاء جدد لهذا المحور من الأعداء.
لذا فإنه لن تكون هناك ضربات عسكرية أمريكية أو إسرائيلية لإيران قبل ترتيب الأوضاع على النحو الذى يضمن أن يكون «العدو» فى أضعف حالاته وهو ما يقتضى المزيد من الاحتواء والاستنزاف والاختراق.
ومعظم التطورات فى العقد الماضى يوضح أن إيران «محتواة جغرافيا» إذا تأملنا خريطة الدول المحيطة بها: فهناك قوات أمريكية فى العراق والكويت والبحرين وقطر وأفغانستان فضلا عن قوات الناتو فى تركيا. بيد أن الاحتواء ليس جيوسياسيا فقط وإنما يقتضى كذلك الاحتواء الدبلوماسى باعتبار إيران دولة خارجة عن الإجماع الدولى وهو ما تضغط من أجله الولايات المتحدة فى لقاءات مسئوليها بنظرائهم الإقليميين والدوليين.
ولا يفيد الاحتواء إن لم يكن مفضياً لاستنزاف القدرات الاقتصادية الإيرانية من خلال الترويج لفكرة أن الضربة المقبلة آتية لا محالة إذا ما أصرت إيران على تطوير قدراتها النووية. وهو ما يعنى ضمناً رسالة واضحة للشركات العملاقة بالتراجع عن الاستثمار فى إيران فضلا عن إجبار الحكومة الإيرانية على المفاضلة بين النفقات الخدمية والتنموية والنفقات العسكرية والأمنية. وسيلعب مجلس الأمن دوراً شبيهاً بدوره فى العراق من قبل. ويشير محللون كثيرون إلى أن الوضع الاقتصادى الإيرانى الداخلى يتردى بشكل واضح وأن العقوبات الاقتصادية ستدفع الحكومة الإيرانية لأن تبحث عن مصادر لتمويل احتياجات المجتمع بعيدا عن صادرات البترول التى تلقت ضربات موجعة.
ويأتى أخيراً دور الاختراق الاستخباراتى الأمريكى- الإسرائيلى لإيران كجزء مهم من استراتيجية القتل البطىء لإيران وهو ما يتطلب ألا تغيب وكالة الطاقة الذرية عن الصورة فلا ننسى دورها المهم فى الكشف عن برامج أسلحة الدمار الشامل العراقية حين صدقت فى ما أخطأته الاستخبارات الأمريكية والبريطانية، وبالتالى أسدت خدمة كبيرة للدول الغازية. ولا يكفى الاختراق المعلوماتى الرسمى وإنما لا بد من أن ينشط عالم الجاسوسية والأعمال الخفية (covert actions) فى إيران وهو ما تجلى فى التصاعد الواضح فى مخصصات الأعمال الخفية ضد إيران فى موازنة وكالة الاستخبارات الأمريكية، ومحاولات ضرب البنية المعلوماتية لإيران من خلال الحرب الإلكترونية.
إذن ليس من الرشاد القفز نحو ضربة عسكرية ضد إيران الآن إلا بعد إضعافها وإضعاف حلفائها، وليس من إضعاف حلفائها فى شىء أن تخرج سوريا من لعبة المحاور لتنضم إليها دولة أخرى بحجم مصر مثلا.
وهذه هى معضلة مصر ما بعد الثورة. كان من السهل أن أكتب مقترحا أن تسعى مصر لأن تخلق محورا ثالثا تكون مصر ودول الخليج وتركيا أهم قواعده، ولكن المخاوف الخليجية من «عدوى الإخوان» ستجعل هذا الأمر مستبعدا الآن. لذلك أقترح نقطتين:
أولا: أرجو من الجميع التوقف عن «تسخين الرئيس» (مقتبسا عنوان مقال للصديق ياسر عبدالعزيز) أو تحويل الأمر لمزايدة على مواقف الرئيس الإخوانى بدعوى أنه لم يفعل أكثر مما فعله مبارك بسحب السفير المصرى من تل أبيب (مثلما كتب الصديق محمد فتحى فى «الوطن» أمس). فى أجواء مثل هذه وبشعارات مثل تلك، تم دفع الرئيس جمال عبدالناصر إلى قرارات تصعيدية منذ منتصف مايو 1967 وانتهت بحرب ندمنا عليها جميعا. تحليل الأزمات الكبرى بثبات انفعالى، بل وبدم بارد، ليس موقفا شعبيا حيث المشاعر مضطربة، ولكنه هو الموقف الصحيح بما أثبتته حوادث التاريخ.
ثانيا أكرر اقتراح السفير نبيل فهى الذى كتبه فى «الشروق» منذ أغسطس الماضى بتشكيل لجنة خاصة مؤقتة من عشرين شخصية عامة، لهم خبرة تاريخية، وسياسية، واقتصادية، واجتماعية، وأمنية، وتكنولوجية، ومجتمعية على غرار Blue Ribbon Commission، لوضع تصور متكامل لعلاقات مصر الخارجية من 2012 إلى 2022، خلال ثلاثة أو أربعة أشهر على الأكثر، ولتتزامن مع الانتهاء من إعداد دستور مصر الجديد، وعقد الانتخابات البرلمانية، لتكون أمام الجميع، ويختار منها الرئيس ما يراه من تقديرات وتوجيهات، حتى يكون تحركنا منهجيا وهادفا، نشرح للمجتمع الأجنبى ما نتخذه من مواقف وإجراءات فى إطار منهجى متكامل وسياق صحيح. كان هذا نص الاقتراح، وأضيف عليه أن الأمر الآن أصبح أكثر إلحاحا، وما نشهده الآن هو اختبار سريع لتوجهاتنا، وعلينا أن نتبنى استراتيجية كبرى «Grand Strategy» لا تنال من التزاماتنا الأخلاقية والتاريخية تجاه أشقائنا الفلسطينيين ولكنها فى الوقت نفسه لا تجعلنا نتبنى مواقف محسوبة على محور دون آخر.
نقلاً عن جريدة "الوطن"