توافقوا أو ارحلوا

توافقوا أو ارحلوا

المغرب اليوم -

توافقوا أو ارحلوا

معتز بالله عبد الفتاح

يوجد من التناقضات الداخلية فى دول كثيرة ما يبدو أضعاف ما هو موجود فى مصر، وتبدو هذه الدول أكثر استقرارا من مصر وأكثر قدرة على صناعة التوافق الوطنى. خذ مثلا دولة مثل جنوب أفريقيا التى عرفت السيطرة الاضطهادية للبيض (12 بالمائة من السكان) على السود لمدة 300 سنة بكل ما حملته من إهانة وتعذيب وقتل وتشريد. ومع ذلك يبدو أن أمرا ما حدث جعل هؤلاء يتسامحون ويتعايشون مع أولئك. بل حتى إن تاريخ الصراع بين القبائل السوداء الثلاث الكبرى فى جنوب أفريقيا (الإكزوسا، والزولو، والسوتو) ليس تاريخ تعايش بقدر ما كان تاريخ صراع مكتوم أو ظاهر. إذن ماذا حدث؟ ولنأخذ كذلك مثالا لدولة كالولايات المتحدة التى تبين تعدادات السكان أن فيها من التعدد العرقى واللغوى والدينى ما يجعل المرء يتساءل كيف يتعايش السيخ والهندوس والبوذيون والمسلمون مع غيرهم من الأمريكان ذوى الأصول البيضاء أو اللاتينية فى حين أن هؤلاء لا يتعايشون بنفس القدر من التسامح والتوافق فى بلدانهم الأصلية. هل هناك دول معمول لها عمل وأخرى نجحت فى فك العكوسات؟ هل المسألة مرتبطة بعوامل معينة (factors) أم بسلوك الفاعلين (actors)؟ إذن الفكرة وضحت أن المجتمعات متفاوتة فى قدرتها على استيعاب تناقضاتها الداخلية. معظم التحليلات تذهب إلى الدور الذى تلعبه الأغلبية فى القدرة على البحث عن حلول وسط تسمح ببناء التوافق الوطنى. ولنأخذ عدة أمثلة. إجراءات الانتقال من الحكم العنصرى فى جنوب أفريقيا إلى الحكم الديمقراطى ارتبطت بعشرات التحديات التى احتاجت جهدا ذهنيا ونفسيا هائلا من الأغلبية الجديدة بقادة الرأى فيها مثل نيلسون مانديلا وديزموند توتو. كانت الفكرة الأساسية هى لجان الحقيقة والمصالحة حتى لا يعاقب كل البيض على ما اقترفه بعضهم، فتكون العقوبة شخصية. كانت هناك مخاوف حادة لدى قبائل الزولو من أن يقعوا فريسة لسيطرة قبيلة الإكزوسا التى منها نيلسون مانديلا شخصيا، ولهذا طالبوا بالاستقلال؛ فكان الحل من نيلسون مانديلا وحزبه (حزب الأغلبية) أن يمثل فى الحكومة بوزير واحد على الأقل أى حزب يحصل على 5 بالمائة من أصوات الناخبين كآلية من آليات تقاسم السلطة (power sharing) فضلا عن منح إقليم الزولو حكما ذاتيا فى إطار الفيدرالية الجنوب أفريقية. هذا المنهج هو ما مكن الآباء المؤسسين للولايات المتحدة من تخطى العديد من الصعوبات. مثلا، كانت هناك مخاوف شديدة عند الولايات الصغيرة من الدخول فى الاتحاد الفيدرالى لأن الولايات الكبيرة ستمثل فى الكونجرس ومن ثم فى الحكومة بأعداد كاسحة. ومن هنا جاء «الحل الوسط الأعظم» (the Great Compromise) القائم على وجود مجلسين للكونجرس: أحدهما (مجلس الشيوخ) تمثل فيه الولايات على قدم المساواة بحيث يكون لكل ولاية ممثلان، والثانى (مجلس النواب) تمثل فيه الولايات على قدر عدد سكانها. وظهرت مشكلة أخرى حيث توجد ولايات بها عدد مهول من العبيد الذين ليس لهم حقوق سياسية، فهل هؤلاء محسوبون أم لا؟ ومرة أخرى كان لا بد من البحث عن صيغة وسط يمكن من خلالها حل هذه المشكلة فتم الاتفاق على احتساب أن العبدسيحسب وكأنه ثلاثة أخماس الحر. وقد فعلها ديجول بعد أن حرر فرنسا، فأصر على أن تكون أول حكومة ممثلة للجميع من أقصى اليسار بما فيها من شيوعيين إلى أقصى اليمين بما فيها من بعض العنصريين، لكن هذا كان شرطه أن يعلم الجميع أن فرنسا لكل الفرنسيين. هذه الجهود، وهذه القدرة على صنع التوافق الوطنى والبحث عن الحلول الوسط هى جزء من بعد النظر والحكمة المتطلبة فى من يعملون بالعمل السياسى؛ وإلا لماذا قبل الرسول (صلى الله عليه وسلم) ألا يكتب أنه «رسول الله» فى صلح الحديبية؟ نقلاً عن جريدة "الوطن"

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

توافقوا أو ارحلوا توافقوا أو ارحلوا



GMT 10:34 2024 الإثنين ,23 كانون الأول / ديسمبر

بجعة سوداء

GMT 10:32 2024 الإثنين ,23 كانون الأول / ديسمبر

تركيا في الامتحان السوري... كقوة اعتدال

GMT 10:31 2024 الإثنين ,23 كانون الأول / ديسمبر

تنظير في الاقتصاد بلا نتائج!

GMT 10:29 2024 الإثنين ,23 كانون الأول / ديسمبر

لبنان... إلى أين؟

GMT 10:27 2024 الإثنين ,23 كانون الأول / ديسمبر

جنبلاط والشرع وجروح الأسدين

GMT 10:25 2024 الإثنين ,23 كانون الأول / ديسمبر

عن «شاهبندر الإخوان»... يوسف ندا

GMT 10:06 2024 الإثنين ,23 كانون الأول / ديسمبر

المثقف وزرقاء اليمامة وكناري المنجم

GMT 10:04 2024 الإثنين ,23 كانون الأول / ديسمبر

تطابق من سبايك لى إلى هانى أبو أسعد!!

الملكة رانيا تربعت على عرش الموضة بذوقها الراقي في 2024

عمان - المغرب اليوم

GMT 15:56 2024 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

الوجهات السياحية المفضلة للشباب خلال عام 2024
المغرب اليوم - الوجهات السياحية المفضلة للشباب خلال عام 2024

GMT 03:18 2024 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

أحمد السقا يكشف موقفه من تمثيل ابنته ومفاجأة عن ولاد رزق
المغرب اليوم - أحمد السقا يكشف موقفه من تمثيل ابنته ومفاجأة عن ولاد رزق

GMT 17:41 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

لا تتردّد في التعبير عن رأيك الصريح مهما يكن الثمن

GMT 08:33 2020 الثلاثاء ,06 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم برج الحوت الجمعة 30 تشرين الثاني / أكتوبر 2020

GMT 16:23 2020 الأربعاء ,01 كانون الثاني / يناير

يحاول أحد الزملاء أن يوقعك في مؤامرة خطيرة

GMT 18:27 2017 الأربعاء ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

ميداليتان للجزائر في الدورة المفتوحة للجيدو في دكار

GMT 17:40 2019 الجمعة ,15 تشرين الثاني / نوفمبر

نجم ليفربول يشعل مواقع التواصل بمبادرة "غريزية" غير مسبوقة

GMT 14:14 2018 الثلاثاء ,20 شباط / فبراير

متزوجة تعتدي على فتاة في مراكش بسبب سائح خليجي

GMT 10:41 2018 الجمعة ,26 كانون الثاني / يناير

عروض فرقة الفلامنكو الأندلسية على مسرح دونيم الفرنسي

GMT 16:22 2018 الإثنين ,22 كانون الثاني / يناير

جدول أعمال مجلس الحكومة المغربية في 25 كانون الثاني
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib