تأكدت أن العقل السياسى المصرى، ومعه الإسلاماسى (أى الإسلام السياسى) مصاب بحول مرضى يفقده المنطق ويفرض عليه أن يفكر بطريقة عشوائية تسجل مواقف ولا تحل مشاكل.
صدر بيان من عدد من الأشخاص المحسوبين على «الإسلام السياسى» وأيدته جماعة «الخوّان المسلمين» جاء فيه:
«إن الحكام والقضاة والضباط والجنود والمفتين والإعلاميين والسياسيين، وكل من يثبت يقيناً اشتراكهم ولو بالتحريض فى انتهاك الأعراض وسفك الدماء البريئة وإزهاق الأرواح بغير حق، حكمهم فى الشرع أنهم قتلة، تسرى عليهم أحكام القاتل، ويجب القصاص منهم بضوابطها الشرعية»، وعلى رأس الموقعين الشيخ يوسف القرضاوى.
حضراتكم عارفين ده معناه إيه؟
هم يقدمون أكبر دليل مكتوب ومعلن على أنهم جماعة لا تقرأ الواقع ولا تقرأ التاريخ الإسلامى.
تاريخياً، مر «الجهاد» بثلاث مراحل مختلفة: المرحلة الأولى: مرحلة الجهاد الدعوى، وهى التى كانت بالأساس فى العصر المكى (أى ما قبل الهجرة). فلم يكن فى العصر المكى إلا جهاد الدعوة والبيان كما قال: «فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا» (الفرقان: 52)، أى جاهدهم بالقرآن الكريم، دون عنف.
ثم جاءت مرحلة ثانية، وهى مرحلة «الإذن فى القتال لدفع أذى المعتدين» وجاء النص القرآنى ليقول: «أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّـهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ» (الحج 39)، وهـى أول آية نزلت فى القتال، كمـا قال ابن عباس، أذن لهم فى القتال ولم يفرضه عليهم.
ثم جاءت المرحلة الثالثة، وهى مرحلة قتال المشركين كافة، وكما قال سيد قطب مستنداً إلى عدد من كتب التراث أن فى هذه المرحلة أصبح القتال فريضة إلهية كتبت على المسلمين، فكما «كُتب عليكم الصيام» (البقرة 183)، كذا أيضاً «كُتب عليكم القتال» (البقرة 216).
ويذهب البعض إلى أن هذه المرحلة ناسخة لما قبلها من المراحل، وهى التى استقر عندها حكم الجهاد، ومات عليها نبى الإسلام، صلى الله عليه وسلم.
يقول ابن تيمية: «فكان النبى فى أول الأمر مأموراً أن يجاهد الكفار بلسانه لا بيده، وكان مأموراً بالكف عن قتالهم لعجزه، وعجز المسلمين عن ذلك، ثم لما هاجر إلى المدينة وصار له بها أعوان أُذن له فى الجهاد، ثم لما قووا كتب عليهم القتال، ولم يكتب عليهم قتال من سالمهم، لأنهم لم يكونوا يطيقون قتال جميع الكفار، فلما فتح الله مكـة وانقطع قتال قريش ملوك العرب ووفدت إليه وفود العرب بالإسـلام أمره الله تعالى بقتال الكفار كلهم إلا من كان له عهد مؤقت، وأمره بنبذ العهود المطلقة) كتاب: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية 1/74.
إذن، الخبرة التاريخية للنبى، صلى الله عليه وسلم، تشير إلى أن الانتقال لمرحلة القتال، أى التى تعادل ما جاء فى البيان من وصف كل هؤلاء بالقتلة وينبغى القصاص منهم، هى مسألة شديدة التعقيد فى الفقه الإسلامى وارتبطت بحسابات معقدة، منها القدرة ومنها المآلات.
كنت أتوقع من مشايخ ودعاة طالموا حدثونا عن فقه الأولويات وعن فقه الواقع وعن صورة الإسلام وعن أن درء المفسدة مقدم على جلب المنفعة، كنت أتوقع منهم أن يفكروا بمنطق مختلف. وأن يروا المصريين من أنفسهم خيراً، وأن يثبتوا بحق أنهم أصحاب رسالة إسلامية سلمية «تحمل الخير لمصر»، أم أن الخير لمصر لا يأتى إلا وأنتم فى السلطة؟
هم كمثل من يلقى بنفسه فى البحر دون سابق علم بفنون السباحة ثم يلوم البحر أنه ابتلعه وغرق فيه.
كان نفسى يكون بين المسلمين من كبيرهم إلى صغيرهم من تعلم شيئاً من تاريخ النضال «الوطنى» فى العالم. كان نفسى يكون يوسف القرضاوى، ولو مؤقتاً، مثل نيلسون مانديلا الذى راهن على وطنية الجميع وحقن الدماء وأمر الأتباع والأنصار بالعمل على إنقاذ مصر، ثم تأتى قضية الصراع على السلطة لاحقاً.
كنت أتمنى أن يكون بين هؤلاء من يتخلق بأخلاق آية الله على السيستانى الذى أمر الشيعة ألا يطلقوا النار على السنة فى العراق منعاً لمزيد من الدماء.
هناك لحظات حرجة فى تاريخ الأمم يكون فيها الاختيار واضحاً بين أن نعيش معاً كالإخوة أو أن نغرق معاً كالحمقى.
اللهم نجِّ مصر منا يا رب.