القيادة تتصف بهذه الصفة لقدرتها على أن ترى (من الرؤية)، وأن تنجز (من الإنجاز) ما لا يراه ولا يستطيعه غيرها. ولهذا الرؤساء كثيرون، والموظفون أكثر، لكن القادة والزعماء التاريخيون استثناءات تعد فى تاريخ الأمم على أصابع اليد الواحدة.
هذا مقال ممل فى أوله، لكنه قد يكون مفيداً فى آخره. تعالوا نسافر فى الزمان والمكان، لنبدأ من الولايات المتحدة الأمريكية فى الثلاثينات، ثم نعود إلى مصر المستقبل.
تسلم الرئيس الأمريكى فرانكلن روزفلت الولايات المتحدة فى 1933، وكانت نسبة البطالة رسمياً 25 فى المائة بسبب الكساد الكبير. مشكلة غير تقليدية تقتضى تدخلاً غير تقليدى من شخص غير تقليدى.
تتصرف كيف يا واد يا روزفلت؟
نعمل حاجة اسمها: كتائب الخدمة المدنية (Civilian Conservation Corps) اللى هى، أعزكم الله، الـ(سى سى سى).
وهو برنامج تأهيلى عام للرجال العاطلين، جزء من رؤيته الأكبر لإصلاح أحوال الولايات المتحدة الأمريكية الذى سماه الرجل آنذاك: «الصفقة الجديدة» (New Deal)، التى تعنى عمل مشروع وطنى جديد بين الحكومة والشعب.
وكان أحد أهم مكونات هذه الصفقة الجديدة هو برنامج الـ(سى سى سى).
أيوة، اللى هو إيه يعنى؟
نركز مع بعض شوية.. بإذنك يا رب.
ده برنامج تدريب مهنى يهدف إلى الاستفادة من طاقة الشباب المعطلة فى حفظ وتنمية الموارد الطبيعية فى الولايات المتحدة 1933 حتى 1942، وهو توقف فى عام 1942، لأن الولايات المتحدة دخلت الحرب العالمية الثانية واحتاجت إلى الشباب فى الحرب. تم تصميم الـ(سى سى سى)، لكى يؤهل العاطلين عن العمل من الشباب بسبب الكساد الكبير فى كل ما احتاجت إليه الدولة فى كل المجالات، مثل السيطرة على الفيضانات: الرى، وسدود الصرف الصحى، والخنادق، والعمل بالقناة، واستصلاح الأراضى وتهذيب الغابات وزراعة الأشجار والشجيرات والوقاية من الحرائق، والتحكم فى الحشرات والأمراض، وتنمية أراضى المتنزهات والبحيرات وتنظيف مواقع البرك وتعبيد الطرق، والقضاء على الحيوانات المفترسة؛ والحياة البرية: واستزراع الأسماك، والأغذية والغطاء النباتى.
هذا البرنامج موجه إلى الشاب الأمريكى، غير المتزوج، العاطل عن العمل، الذى عمره ما بين 18 - 25 سنة. يبدأ الشاب البرنامج متطوعاً، وبعد مروره من الاختبار البدنى لمدة ستة أشهر يمكن مد خدمته لمدة عامين. يعيش الشباب فى مخيمات للعمل، وكان يقبض 30 دولاراً فى الشهر (مع تخصيص إلزامى لـ22 - 25 دولاراً ترسل إلى عائلاتهم كنوع من دعم الأسر الفقيرة)، ويتم توفير الغذاء والملبس والرعاية الطبية لهم.
هذا البرنامج واجه تحديات مهولة كانت يمكن أن تقوده إلى الفشل. وسأروى بعض التحديات فى السنتين الأوليين، حيث كان هناك 463 معسكراً عملت بـ250 ألفاً من المبتدئين الصغار، و28 ألفاً من قدامى المحاربين والضباط المتقاعدين، و14 ألفاً من الهنود الأمريكيين و25 ألفاً من الرجال المحليين فى كل منطقة من المناطق التى كان يوجد فيها المعسكر. عاش العمال فى مخيمات، وارتدوا زياً رسمياً، وعاشوا تحت مراقبة عسكرية، ولكن مثلهم مثل المدنيين كانوا غير خاضعين للأنظمة العسكرية. وعند وقت الدخول، كان يعانى حوالى 70% من العمال من سوء التغذية وفقر الملبس. كان هناك القليل جداً من الحاصلين على أكثر من سنة فى المدرسة الثانوية. الكثير من هؤلاء تمردوا على النظام والانضباط فى البداية، وكان يتم الحفاظ على الانضباط بواسطة التهديد «بالتسريح من الخدمة». فى البداية، رفض الآلاف حلف يمين الولاء لـ«سى سى سى». لكنهم حين آمنوا بنبل القضية، أصبحوا أكثر حرصاً على البرنامج.
ولأن أمريكا آنذاك لم تكن قد التزمت بسياسات المساواة الفعلية بين البيض والسود، فقد تم عزل حوالى 200 ألف أمريكى من أصول أفريقية فى معسكرات خاصة بهم، لكنهم كانوا يتساوون مع غيرهم فى الأجور والسكن. كل هذه مشكلات ليست موجودة فى السياق المصرى. شهادات الذين شاركوا فى هذا البرنامج إيجابية. ويوجد على «يوتيوب» وثائقيات متعددة عنه. تحكى عن نجاح التجربة. وكيف كان يزورهم فرانكلن روزفلت ويأكل من طعامهم ويضحك معهم.
نجحت كتائب الخدمة المدنية، وكانت من أكثر برامج «الصفقة الجديدة» شهرة بين العامة، لأنها وفرت الإغاثة الاقتصادية لمئات الآلاف من الأسر، وأنقذت جيلاً كاملاً من آفات البطالة، وأهلت ودربت حوالى 3 ملايين شاب على مهن حرفية ويدوية ومكتبية كثيرة.
طيب نعملها إزاى فى مصر؟
أولاً، لازم ندرسها كويس. لأن أكثر 4 نماذج فى العالم لما يشابهها من برامج كانت شديدة الاختلاف فى التفاصيل، سواء تلك التى صنعها «دينج تساو بينج» فى الصين تحت اسم «جيش التنمية» أو تلك التى ابتكرها «فيديل كاسترو» فى كوبا، للقضاء على الأمية، أو تلك التى استُحدثت فى المكسيك، لاستصلاح الأراضى.
ثانياً، لدينا فى مصر طاقة معطلة مهولة متمثلة فى مراكز الشباب، عددها حوالى 4450 مركز شباب، والمساجد التى تزيد على 108 آلاف مسجد و2800 كنيسة و50 ألف مدرسة و40 ألف مؤسسة مجتمع مدنى و30 جامعة ومئات المعاهد. كل هذه المؤسسات هى مراكز تجمع مهول لعدد كبير من الشباب الذين يمكن أن يُستخدموا لخدمة المناطق والأحياء التى يعيشون فيها أو فى محيطها. هذا لن يحدث إلا إذا كانت خطة عمل واضحة ورؤية محدّدة وتوزيع مهام قائم على دراسة جادة لحاجات المناطق والأحياء والقرى والمحافظات.
ثالثاً، لا بد من استقدام خبراء من الخارج من تلك الدول التى قامت بعمل مشابه للتعلم منهم. الموضوع فيه بعض الفنيات، ليست صعبة ولا معقّدة، لكنها ضرورية ولا ينبغى أن تخضع للتقاليد البيروقراطية المتعارَف عليها فى مصر، لأنها قد تدمر المشروع فى أصله.
رابعاً، من يقود هذا المشروع لا بد أن يكون مؤمناً به، مطلعاً على تفاصيله فى الخارج، لديه تصور واضح بالمنتج النهائى الذى يريد أن يصل إليه.
خامساً، هذا البرنامج ليس بديلاً ولا موازياً للخدمة العسكرية الإجبارية الموجودة فى مصر، وإنما هو مسألة اختيارية للكثير من الشباب العاطلين عن العمل الذين يقضون أيامهم ولياليهم بلا هدف أو طموح، فى أن يتحولوا إلى طاقات عمل وبناء فى مجالات مدرة للربح للدولة ولهم، وهى كثيرة مع ضمان الحد الأدنى من الراتب المعقول لهؤلاء الشباب، حتى لو كان مصدر دخول هؤلاء الشباب من ضرائب خاصة لهذا المشروع.
سادساً، نحن نكافئ الأسر الأكبر بدعم مالى أكبر، ونعطى الكثير من الأموال لموظفى القطاع الحكومى مع عدم حاجتنا إلى إسهامهم، وكأنها إعانات بطالة. هذه الفكرة التى طبقها الأمريكان فى الثلاثينات، أعمق وأفضل من فكرة إعانة البطالة التى تمنح للفقراء بلا توقع عمل منهم.
سابعاً، نحن بحاجة إلى أفكار غير تقليدية فى مواجهة التحديات التى نعيش فيها وتعيش فينا، بسبب فقر الفكر وفكر الفقر الذى نعيشه. نحن لسنا فقراء فى جيوبنا فقط، نحن فقراء فى عقولنا أيضاً. ولو لم نثرِ عقولنا بأفكار مبتكرة، سنظل محلك سر.
يقول الفرنجة الملاعين، على رأى جدنا «الجبرتى»:
«you will never have something you never had, unless you do something you never did» بعبارة أخرى: لن تحصل على شىء لم يكن عندك أبداً، إلا إذا فعلت شيئاً لم تفعله أبداً من قبل. السؤال: هل الرئيس السيسى وفريق عمله مستعدون لأفكار ومشروعات من هذا النوع، أم سنظل نبكى على ما كان ينبغى أن يكون؟