كتبت من قبل عن ثلاثة فلاسفة كبار: «هوبز» و«لوك» و«ميل»، وهؤلاء الثلاثة مرتبطون بفكرة أن السياسة فى أهم معانيها هى التوفيق بين الأهداف المتعارضة وليس المفاضلة بينها، لذا تسعى الدول للتوفيق بين وحدة الدولة وسيادتها واستمرارها، ثم بناء مؤسسات الدولة التى تضمن تحقيق الهدف السابق وتحقيق الهدف اللاحق وهو: الحفاظ على حريات وحقوق مواطنيها المادية والمعنوية.
بعبارة أخرى: وحدة الدولة ثم المؤسسات الديمقراطية ثم الحقوق والحريات. وكى نفهم هذا المعنى أكثر ونربطه بما يحدث فى مصر الآن، أقدم لكم ثلاثة أسماء مهمة فى تاريخ الفكر الغربى والإنجليزى تحديداً، لدورهم الكبير فى رسم مسارات التطور السياسى فى بلدهم (إنجلترا) ثم فى العالم؛ أولاً أبدأ بالكابتن «هوبز»، وهو فيلسوف كبير تنسب إليه فكرة «الدولة التنين»، أى الدولة القمعية التى يبررها شىء واحد، هو أن البديل هو «حرب الجميع ضد الجميع». لو كان الكابتن «هوبز» حياً لأشار إلى الصومال وأفغانستان ورواندا والبوسنة والهرسك، وربما لضحك وقال: «أنا صح، فى الأصل تكون الدولة لأنها هى الحاضنة والمحافظة على حقوق الأفراد حتى لو اضطر هؤلاء الأفراد للتنازل عن كل حقوقهم مقابل الحق فى الأمن والحياة، حتى وإن كانت حياة بلا حقوق سياسية».
إذن عند «هوبز» الدولة الطاغية مبررة إذا ما كان البشر غير قادرين على العيش معاً بلا طغيان الدولة. وبالمناسبة الرجل لم يكن يحلم حين كتب هذا الكلام، فقد عاش أياماً «أسود من قرن الخروب» فى القرن السابع عشر فى إنجلترا، حيث كانت الفوضى والقتل يعمان البلاد. وبنص كلامه: «بدون دولة قوية ومستقرة.. لا يكون فى هذه الظروف مجال لقيام المعرفة ولا اعتبار للوقت، ولا فنون، ولا أدب، ولا مجتمع؛ والأسوأ من ذلك كله انتشار الخوف المستمر ومخاطر التعرض للعنف المميت؛ وتكون حياة الإنسان حياة عزلة، وفقر، ورداءة، ووحشية، وتكون قصيرة»، (الجملة الأخيرة مهمة).
إذن عند الكابتن «هوبز»: هناك علاقة سببية ومطردة بين الامتثال للسلطة السياسية والسلم الاجتماعى.
طيب هتسألونى يا كابتن «مُع مُع» ولماذا ظهرت الديمقراطيات فى هذه الدول الغربية؟
كابتن «مُع مُع» يجيب: جهود كثيرة بُذلت حتى لا يكون الحق الوحيد الذى تضمنه الدولة هو حق الأمن والبقاء على قيد الحياة، إنما لا بد من حقوق أخرى مثل الحق فى الملكية والتعبير عن الرأى والاجتماع والمشاركة السياسية حتى لو كانت فى مرحلة أولى محدودة بالذكور دون النساء والبيض دون الملونين. وبطل هذا الجزء هو الكابتن «لوك» وهو الذى أيد ثورة مهمة فى إنجلترا اسمها الثورة المجيدة سنة 1688 (زى ثورة 25 يناير بس ما كانش فيه مجلس عسكرى)، المهم أنها انتهت بما أراده الكابتن «لوك» وفريق الأشبال الذى كان يدربه، وهو أن تكون هناك «دولة» لكنها ليست «طاغية»، يعنى نأخذ من الكابتن «هوبز» فكرة الدولة القوية لكنها ليست مستبدة، نريد أن نحافظ على قوتها ولكن نريد الحد من استبدادها. وبالمناسبة هذا الرجل «لوك» له دور حاسم فى تاريخ الولايات المتحدة حين جلس الآباء المؤسسون لكتابة دستور أمريكا، كانوا كثيرى الإشارة له. ولكن لا بد أيضاً أن نتذكر أن الكابتن «هوبز» كان دوره حاسماً حين حاولت ولايات الجنوب أن تستقل من ولايات الشمال الأمريكية. «هوبز» هو فيلسوف الحفاظ على الدولة، و«لوك» هو فيلسوف بناء الدولة الديمقراطية. أهم أسلحة «هوبز» هى الحاكم القوى، والجيش والشرطة، وأهم أسلحة «لوك» هى الحاكم القوى أيضاً ولكن معه البرلمان والأحزاب.
ولكن الأمر تطلب بعد «هوبز» و«لوك» أن يكون هناك الكابتن «جون ستيوارت ميل» زعيم الليبرالية (بمعنى التسامح السياسى والدينى والفكرى). جاء هذا الرجل بعد حوالى قرن من «لوك» ليقول للإنجليز والعالم فى كتابه الشهير: بعد الدولة وبعد المؤسسات الديمقراطية نحن بحاجة للحقوق والحريات، وهذا مضمون كتابه الشهير «On Liberty» الذى أعطى فيه الحق لكل الأفراد، رجالاً ونساءً، أحراراً وعبيداً، أغنياء وفقراء، فى الاعتقاد وفى التعبير وفى المشاركة السياسية. كما أن أفكاره الواردة فى كتابه عن «مبادئ الاقتصاد السياسى» هى التى ألزمت الدولة بأن تتدخل فى عملية توزيع عوائد الإنتاج بما يضمن عدالته وبما يضمن عدم إساءة استغلال العمال، وذلك من خلال فرض حد أقصى من ساعات العمل وحد أدنى من الأجر، وإعانات البطالة والضرائب المتصاعدة واضعاً بذلك أساس ما يسمى دولة الرفاه فى الغرب. ومن هنا فإن فضل الليبرالية على الديمقراطية أن جعلت عوائد الديمقراطية أشمل، وفضل الليبرالية على الرأسمالية أن ألحقت بها دولة الرفاه حتى يستفيد الجميع من منجزات المشروع الخاص والإبداع الشخصى. ومن هنا فإن قضية العدالة الاجتماعية أصبحت، بفضل الليبرالية، واحدة من القيم الغربية الأساسية.
إذن لا تسألنى عن «ميل» (أى الحقوق والحريات) قبل «لوك» (أى المؤسسات الديمقراطية)، ولا تسألنى عن «لوك» (أى المؤسسات الديمقراطية) قبل «هوبز» (أى وجود دولة قوية مستقرة قادرة على أن تبسط سلطانها وقانونها على بلدها).
بعبارة أخرى، لازم يكون عندى جهاز كمبيوتر (دولة) قبل ما أفكر فى نظام التشغيل (الديمقراطية) وقبل ما أفكر فى نوعية البرامج التى أحملها عليه (الحقوق والحريات).
طبعاً البعض سيقول: نريد الحقوق والحريات وبالتالى لا بد من هدم الدولة. المشكلة أننى لا أظن أن القدرات البشرية التى رأيتها فى مصر منذ أن عدت إليها تقول لى إنها قادرة على بناء الدولة إن هدمت، ولا محيط مصر الإقليمى سيسمح بهذا. والأهم عندى أنه حتى الدول الإسكندنافية الأكثر احتراماً للحقوق والحريات خاضت حروباً كثيرة وكثيفة فيما بينها ومع المحتل الأجنبى حتى تبدأ من نقطة «الدولة» ثم «الديمقراطية» ثم «الحقوق والحريات». وقد جربنا فى مصر لمدة عامين ونصف العام مطالب بالحقوق والحريات والدولة لم تكن موجودة فزاد الناس فقراً وإفقاراً من ناحية، وتحولت الحرية إلى فوضى.
الدكتور مرسى جاء ليحافظ على الدولة، فنال منها، بل أثبت قدرة واضحة على عدم احترام نظام التشغيل (الديمقراطية) بل أصبح مصدر خطر على «اليوزرس» أنفسهم (يعنى المستخدمين لا مؤاخذة).
إذن الأولوية الآن للحفاظ على «مصر».
الحفاظ على مصر الدولة بأرضها وواديها ونيلها ودلتاها وسينائها وحلايب وشلاتين، والحفاظ على مصر الشعب ومصر المجتمع بكل أطيافها مسلمين ومسيحيين، كبارها وصغارها، دينييها وعلمانييها، والحفاظ على مصر المؤسسات بقضائها وجيشها وشرطتها وأزهرها وكنائسها ومؤسساتها المنتخبة مع الإصلاح الفعال لها. والحفاظ على الإنسان المصرى وإعداده لمواجهة الحرب على الجهل والفقر والمرض والانقسام. وفى حالتنا، هذا طريق إجبارى، والفشل فيه ليس بديلاً، إلا إذا كان الثمن ضياع مصر.
«تثبيت أركان الدولة» اقتضى دحض الإرهاب، وعلينا الآن أن ننتقل إلى مرحلة «تربية» الدولة: حكومة، ومؤسسات وشعباً، على نظام التشغيل الذى نحتاجه. وهذا هو جوهر «الوظيفة التربوية» للدولة، لأن الدولة لو لم تعلم مواطنيها وتوعيهم بالتحديات التى تواجهها فلن تنجح ولن تستمر.
لا تتعاملوا مع المواطنين وكأنهم «دواب» لهم مطالب اقتصادية واجتماعية فقط، على أهيمتها، ولكن باعتبارهم بشراً لهم مقومات أخلاقية وفكرية إن لم نبنِها على الصواب، بنيت على الخطأ.
تثبيت أركان الدولة ضرورة، لكن أول من ينبغى أن يحرص على الدولة هو المواطن نفسه. وهذه مسئولية الدولة.