كل ما أعرفه وكل ما درسته يقول لى إن الأصل فى الأمور أن يكون هناك برلمان منتخب مباشرة من الشعب فى انتخابات تنطبق عليها الشروط الثمانية المتعارف عليها دولياً: حرة، نزيهة، تنافسية، دورية، فى اقتراع سرى، مباشر، وفقاً لقانون يضمن تكافؤ الفرص، تشرف عليها جهة محايدة سياسياً.
وفى يوم الانتخابات يتحول الحاكم إلى محكوم والمحكوم إلى حاكم.
لكن فى الوقت نفسه لا يمكن تجاهل حقيقة أن المصريين يعيشون ظروفاً استثنائية تجعل هذه الشروط -حتى وإن تحققت- لا تنتج إلا برلماناً يصنع مشاكل أكثر من كونه قادراً على أن يحل هذه المشاكل.
ناقشنى بعض أصدقائى فى مقال سابق لى عن تشكيل جمعية تأسيسية مستفتى عليها بدلاً من الانتخابات البرلمانية. وها أنا أكمل نقاش الفكرة وأوضح أكثر بعضاً من اقتراحى.
واحدة من أدوات العاملين فى مجال التخطيط تكون عادة التفكير بمنطق الاستقراء العكسى بمعنى: إذا كان البرلمان هو الحل، هى إيه المشكلة أصلاً؟ ليكون أصلاً مافيش مشكلة، وإحنا بنصنع مشكلة وإحنا بنعتقد إننا بنقدم الحل. بعبارة أخرى، دعونا نتأكد أن النتائج غير المقصودة لقراراتنا لا تؤدى إلى مشاكل تفوق الأهداف المقصودة لهذه القرارات. يعنى خطر واضح أن تكون الأعراض الجانبية للعلاج شديدة الوطأة على الجسم السياسى.
تعالوا نسأل شوية أسئلة:
قلت من قبل إن هذه الانتخابات أقرب إلى من يستخدم نفس الشبكة للصيد من نفس البحيرة فيصطاد نفس السمك فيخرج نفس الأداء فيكون نفس الإحباط.
البرلمان المقبل سيكون نتاجاً مباشراً للصراع الأكبر بين المال السياسى، الإعلام السياسى، الإسلام السياسى، القبلية السياسية. وهذا أمر لا يبشر بخير لمستقبل نتمناه لوطننا الذى هو مثخن بالجراح، ويواجه ظروفاً استثنائية، داخلية وخارجية. ونحن نتصرّف فى برلماننا المقبل وكأنه لا يوجد تحدٍّ وجودى أمامنا جميعاً، كدولة وكشعب.
المسار الذى أفكر فيه هو أن نجمع بين ثلاثة أهداف: أولاً، ألا تظل الدولة طويلاً بلا هيئة تشريعية تقوم بمهام إعداد الطريق لمستقبل مختلف.
ثانياً، تكوين «جمعية تأسيسية ثورية تنويرية» لتمثل «الثورة بجد» بحيث تعمل على خلق نخبة جديدة، وتمهد الطريق نحو إطار قانونى جديد، هيئة تعمل من أجل المصلحة العامة للوطن، بعيداً عن الحسابات الضيقة للأشخاص المنتخبين على أسس حزبية أو قبلية أو فئوية.
ثالثاً، ألا تكون بعيدة عن الإطار الدستورى الذى أقره المصريون فى دستور 2014، الذى يعطى لرئيس الجمهورية الحق فى الدعوة إلى الاستفتاء فيما يتصل بمصالح البلاد العليا.
أرجو التفكير فى الاقتراح التالى: جمعية تأسيسية انتقالية لمدة ثلاث سنوات يتم تعيينها من أفضل الكفاءات المصرية (وليكن عددهم 300 أو 400 شخص)، كى يقوموا بالوظيفة التى قام بها «الآباء المؤسسون للولايات المتحدة» و«مجلس اللوردات» فى إنجلترا.
الشرط الأساسى فى نجاح هذه الفكرة أن يكون المعينون أسماء بارزة فى مجالها، تتمتع بالكفاءة وحسن السمعة ولم تتلوث فى فساد أو استبداد من قبل. ويكون من أعضاء هذه الجمعية التأسيسية ممثلون عن كل القوى السياسية الوطنية التى شاركت فى ثورتى 25 يناير و30 يونيو، أو على الأقل لم تعارضهما.
نجاح هذه الجمعية يقتضى وجود أسماء حين نختلف أو نتفق على بعضها، فسنجد أن المجموع لا يمكن أن يتواطأ على كذب أو خيانة أو عدم كفاءة. حتى لو عندى مشكلة مع 50 اسماً، لكن لا توجد عندى مشكلة مع بقية الأعضاء. كل التيارات الوطنية ينبغى أن تكون ممثلة فى هذه الجمعية، سواء المؤيدون أو المعارضون لسياسات الدولة الحالية، ويكون هناك تمثيل معتبر للفئات المختلفة التى ميّزها الدستور الحالى من نساء، وشباب وأقليات، وهكذا.
ويمكن بطبيعة الحال أن يتم طلب ترشيحات تقدم للرئاسة من الجهات المختلفة، مثل مؤسسات المجتمع المدنى، الشخصيات البارزة، الجامعات، الأحزاب، المصريين فى الخارج، الأزهر، الكنيسة، القضاء، السلك الدبلوماسى، وهكذا.
وكى تكتسب هذه الفكرة شرعيتها (الشعبية)، أذكر أنه من حق رئيس الجمهورية وفقاً للدستور أن يستفتى المصريين فى المسائل التى تهم مصالح الدولة العليا. وعليه فمن الوارد أن يتم استفتاء الناس فى ورقة واحدة على ثلاثة اقتراحات:
- أن يوقف العمل بالمواد الخاصة بتشكيل مجلس النواب الموجودة فى دستور 2014 مؤقتاً. وأن يتم تشكيل جمعية تأسيسية محل مجلس النواب لمدة 3 أو أربع سنوات.
- أن يكون تشكيل الجمعية التأسيسية وفقاً لما هو معلن من أسماء.
- أن تحل الجمعية التأسيسية محل مجلس النواب فى كل الأدوار التشريعية والدستورية المنصوص عليها فى الدستور.
ما يغلب على ظنى أن أغلب المصريين سيوافقون فى الاستفتاء، ليس بقوة الدفع التاريخى، لكن لأنهم يستشعرون قلقاً من تنافس «أحمق» من أجل مصالح شخصية وحزبية وإنفاق هستيرى فى بلد يعانى الفقر والبطالة، وثقة فى أن القيادة السياسية الحالية بحاجة لأن يكون معها أفضل العقول الوطنية المخلصة. أفضل عقول مصر يحكمونها. أفضل عقول مصر يحددون الأطر الرسمية لها، أفضل عقول مصر فى مقدمتها.
ما المطلوب من الجمعية التأسيسية تحديداً؟
- أن تقوم بمراجعة القرارات بقوانين التى صدرت فى الفترة الماضية (والتى من المفترض وفقاً للنص الحالى أن يتم مراجعتها خلال 14 يوماً من تشكيل المجلس، وهذا مستحيل).
- أن تساعد فى تشكيل، ثم مراقبة، أعمال الحكومة الجديدة.
- أن تعدل قانون المحليات لتعطى مساحة حركة أكبر للوحدات المحلية وللمحافظين وتعد البلاد لانتخابات محلية، وأعتقد أنها مهمة الآن لأن المجالس المحلية المنتخبة ذات الصلاحيات الحقيقية هى نقطة البداية الصحيحة فى ترتيب العقل المصرى لتقبل الديمقراطية وتفهم وظائفها وإجراءاتها.
- أن تعيد النظر فى الدستور، وأن تقترح ما هو منطقى من تعديلات عليه.
- أن تقوم بتنقية القوانين الكثيرة والمتشعبة والمتناقضة (أحياناً).
- أن تساعد الحكومة فى تشكيل رؤيتها لمصر 2030، (وهو عمل تقوم به وزارة التخطيط حالياً).
- أن تخلق نخبة جديدة لمصر. أن تخلق نخبة جديدة لمصر. أن تخلق نخبة جديدة لمصر.
سألنى الأصدقاء: هل الغرب سيوافق؟
طُزززززززززززززززززز فى الغرب. الغرب ماكانش عايز «مرسى» يمشى، وفى مرحلة سابقة ماكانش عايز «مبارك» يمشى. القضية ما الذى يريده المصريون، وما يريده المصريون سيقبله الآخرون، إن آجلاً أو عاجلاً.
وبالمناسبة، قبول الناس فى استفتاء عام حر نزيه تحت إشراف قضائى وبمتابعة دولية، لن يختلف كثيراً عن الانتخابات من وجهة نظر الشرعية العالمية.
المهم، وأكرر المهم، أن تكون تشكيلة الجمعية متوازنة.
طيب، وأصحاب المصالح هيعملوا إيه؟
هيعملوا اللى بيعملوه دائماً، كل ما لا يفيدهم أو يحقق مصالحهم هيشوهوه ويدمّروه ويقولوا عنه فكرة صهيونية إمبريالية إخوانية أمريكية برازيلية زاحفة. ولكن القيادة صاحبة الرؤية وصاحبة الشرعية أقوى من كل هؤلاء إن اقتنعت بالفكرة واستخدمت الأساليب المتعارف عليها فى «التواصل والتسويق السياسى».
والسؤال: ماذا لو محدش سمع كلامك؟
عادى، رأيى ليس جزءاً من كرامتى. ولو فى الكلام الفاضى اللى أنا كاتبه ده خير للبلد، يا رب يقرأوه ويعملوا بيه، ولو فيه شر للبلد، يا رب مايقرأوهوش ولو قرأوه مايعملوش بيه. وأنا أعلم أن فرامل البلد دى أقوى من بنزينها عشان كده مش عم تمشى، وأى فكرة جديدة بترعب الجهات المعنية لأنها جهات عميقة عقيمة تخاف من كل ما هو جديد، وتعتبر أن أى خروج على المسار المعتاد حتى لو كان غلط، هيعمل مشاكل أكبر.
الخلاصة: تمهيد الأرض لمصر الجديدة لن يكون باستعارة الوجوه والتوجهات القديمة. إحنا كده بنحاول يكون شكلنا صح، حتى لو كنا غلط.
وكما قال الشاعر: إحنا لا بنعمل الصح صح، ولا بنعمل الغلط صح.
دمتم بخير.