عمار علي حسن
والربط الحتمى بين السمات النفسية للمحكومين ونوعية الحكم الذى يقودهم هو من قبيل تعويق جهد الراغبين فى وضع أفضل لمجتمعهم، ومن ثمّ تطويل أعمار أنظمة حكم تخاصم الديمقراطية وتكره من ينادى بها أو يدافع عنها.
وأنصع برهان على ذلك أن العديد من المجتمعات الغربية لم تكن لحظة تحولها إلى الحكم الديمقراطى، أو حتى فى الوقت الراهن، تحمل سمات نفسية واحدة، أو حتى متشابهة. فالدراسات التى أُجريت على سيكولوجية الشعوب فى مطلع القرن العشرين مثلاً، ومنها كتاب مهم ألفه أندريه سيجفريد، أظهرت أن هناك اختلافاً فى القسمات المشتركة لشعوب هذه المجتمعات. فالسمة العليا لدى الفرنسيين هى «البراعة» ولدى الإنجليز «العناد» وعند الألمان «التنظيم» أما الأمريكيون فهم شعب «ديناميكى» والروس «متصوفون». ولحظة إجراء هذه الدراسات كان الإنجليز والفرنسيون والأمريكيون والألمان ينعمون بالديمقراطية على الدرجة نفسها رغم اختلاف سماتهم النفسية. والروس ضاقوا ذرعاً بالاستبداد طيلة الحكم الشيوعى، وها هم يضغطون كل يوم من أجل تعزيز تطورهم الديمقراطى، ومنهم من يريد تحقيق هذا الهدف بالجهود الذاتية، ومنهم من لا يمانع فى دعم من الخارج لهذا المسار. ولتفنيد ما يذهب إليه فقهاء السلطة على الشعوب العربية أن تزاوج بين ضغطها المتواصل من أجل الديمقراطية «الآن»، والعمل الجاد فى سبيل أن تنشأ ديمقراطيتنا سليمة معافاة.
وحتى يتحقق المطلب الأخير من الضرورى أن نبنى الديمقراطية داخل أنفسنا أولاً، فيربى الآباء أبناءهم على كراهية الاستبداد، ورفض الاستعباد، والانحياز إلى الحلول الجماعية والمصلحة العامة، والإصرار على المشاركة فى صناعة المصائر، صغيرها وكبيرها، وتقبُّل الرأى الآخر والفكر المخالف، والاعتياد على الاختيار من بدائل، وليس الانصياع لإملاء مسار واحد.
إن الوقوف عند ترديد الآية الكريمة «إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ»، من دون البحث عن طرائق وأساليب لتحققها فى الواقع أمر عديم الجدوى. وقد اكتفت الكثير من أدبيات «التغيير» التى انهالت كالسيل فى السنوات الأخيرة، بذكر الآية، ولم تجهد نفسها فى تحرى وسيلة لتطبيقها. لكنها لم تهمل جانباً مهماً يقاوم الجزء السلبى من الارتكان إلى القدر، فى مجتمع متدين بطبعه، مثل المجتمع المصرى، فحرصت على أن تشرح مدلول هذه الآية، وهى أن الله سبحانه وتعالى بيّن للناس الخير من الشر، وأعطى الإنسان عقلاً وقلباً ووجداناً، وجعله خليفته فى أرضه، وعليه هو، بإرادته الحرة الطليقة، أن يتلمس سنن التغيير، وأن يرفع راية الحق فى وجه السلطان الجائر، لاسيما إن تردت الأحوال وفسدت، ولم يكن هناك بد من حركة فتية قوية فى الواقع لإنهاء هذا التردى، ووضع حد لذلك الفساد، بما يؤدى إلى «استصلاح الخلق بإرشادهم إلى الطريق المنجى فى العاجل والآجل.. وتدبير المعاش مع العموم على سنن العدل والاستقامة»، حسب تعريف الفقه الإسلامى للسياسة، وليس حسب الممارسة التاريخية التى انزلقت، فى الغالب الأعم، إلى الطغيان.
واستغل بعض الفقهاء آية كريمة أخرى وهى «أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِى الْأَمْرِ مِنكُمْ»، ليطلبوا من المحكومين أن ينصاعوا لمشيئة السلاطين، مهما كان تجبرهم وتوحشهم، وابتعادهم عما رتّبه الدين من علاقة سوية بين الحاكم والمحكوم. ونسى هؤلاء أن الآية تقول: «أولى الأمر منكم» وليس «أولى الأمر عليكم»، وشتان بين «منكم» أى باختيارنا و«عليكم» أى بإجبارنا، أو بفرضهم علينا فرضاً.
(ونكمل غداً إن شاء الله تعالى).