عمار علي حسن
حين جن الليل اقترب بعض شباب الثورة من الحاجز الحديدى وألقوا نظرة شاملة على الجمل، وحسدوه على النعيم الذى يعيش فيه. فمع كل هذا الصخب يقف فى سكينة وسلام. ووصل أحدهم إلى عنقه وراح يمرر راحته عليه فى هدوء وحدب، فأخذ الجمل ينيخ حتى استقر على الأرض شارعا رأسه نحو بقعة الليل الواقفة بين فوهة البنايات التى تتوازى على أول الشارع. نظر إليه الشاب مليا، ثم اغرورقت عيناه بالدمع، اقترب منه مرة أخرى، وهمس فى أذنه: ـ ربنا أرسلك لنا أنت وأخوتك فى الوقت المناسب. ثم رفع رأسه وقال لصديقه: ـ كاد الناس ينفضون عنا بعد أن دغدغ الطاغية العجوز عواطفهم بخطابه الكاذب. فرد عليه مبتسما: ـ من أرسل هذه الجمال والأحصنة يستحق أن نكافئه. فهز رأسه وقال: ـ طبعا. حين رأى الناس الجمال فى ميدان التحرير عادوا إليه، وعرفوا كذب الطاغية، وأدركوا توحش وتخلف النظام الذى يحكمهم. نهاجمهم بالفيس بوك وتويتر ويوتيوب فيردون بالدواب. فى اليوم التالى سلموه هو ورفاقه وبعض الأحصنة إلى قوات الجيش، فأعادتها إلى «نزلة السمان» فى رحلة معاكسة، لم يدر فيها لماذا جاء؟ ولماذا ذهب؟ لكن ما استقر فى ذاكرته هو هذا الوهج الأحمر والأصفر، وذلك الدخان الأسود الذى كان ينبعث أمام عينيه وهو يرى العالم أمامه أكبر وأوسع مما ألفه من قبل. عاد إلى الحظيرة، ولم يعد الغلام. وبعد خمسة أيام وجده أمامه، رأسه مربوط بشاش أبيض ضخم، فى قلبه بقعة حمراء. أما وجهه فيتخالط فيه الأحمر والأزرق على ورم ظاهر. كان منكسرا. تقدم إليه، وسأله: ــ أين صاحبتك؟ رفع وجهه إليه ونفر بقوة، فتساقط الرغاء على رأس الغلام، ثم دفن عنقه الطويل بين قدميه الأماميتين، ولاذ بصمت، ثم أخذ يزفر ويشهق، ثم صمت فجأة، ورجع إلى الوراء خطوات، ثم مد بوزه نحو الغلام. وكان يعرف هو ماذا يريد الجمل فى هذه اللحظة. مد يده وراح يمسد عنقه، ثم ارتفعت عقيرته: «شوف الكلام اللى قلتولك ماجراشى وآدى اللجام انكسر حتى الكحيل ماجراشى أوعك تماشى جدع يكون طول عمره ماجراشى ماشى جدع ينزل على العدا جراية ما ينهت من قوم لو كانت راكبة خيل جراية دانا نزلت دموعى على الخدين جراية أكثر أسايا من أحبابى وأنا ما أدراشى» ثم جاءت الأيام اللاحقة عصيبة. بقى الجمل فى الحظيرة، وعرف الغلام طريق المقهى، فجلس عليه ساعات طويلة. كان يحتسى الشاى وهو يتلفت حوله لعله يجد سائحا واحدا قادما من أى جهة، فيجرى نحوه، ويجرى نحو الجمل ليسحبه، ويذهبوا جميعا إلى سفح الهرم. لكن الساعات راحت تتراكم دون أن يلوح أى أمل فى نهاية قريبة لهذا القعود، أو يكف كل الجالسين عن إبداء كرههم للثورة التى يتهمونها بأنها خطفت أرزاقهم، دون أن يكلفوا أنفسهم برهة واحدة ليستمعوا إلى أحدهم وهو يقول: ـ خسرت فلوس وكسبت حريتى. ولا يجد ردا من أحد، إلا نظرات غاضبة، لكنه يواصل: ـ أنسيتم أنكم كنتم تقسمون ما تعرقون به مع أمناء الشرطة والضباط الفاسدين. يدخلون أكثر فى صمتهم وآذانهم تجتر كل ما ينسكب عليها فى المساء من الشاشات الزرقاء عن «معركة الجمل» فيبتسم بعضهم أحيانا وينظر إلى الغلام ويقولون: ـ جملك دخل التاريخ. فيقهقه الغلام ويقول بكل ثقة: ـ كلهم متفقون على أنه لولا جملى لفشلت الثورة. فيهزون رؤوسهم ويبتسمون، كابتين قهقهات عارمة فى صدورهم التى لا تكف عن الغيظ من الثوار. نقلاً عن جريدة " الوطن"