عمار علي حسن
ويصاب التيار المدنى بغياب فضيلة «إنكار الذات» لدى قادته، فكل منهم يرى نفسه الأحق بحيازة الصدارة، ولا يقبل، أو يتذمر، من العمل تحت آخر. وقد كان لهذا العيب دوره فى تفكيك وإضعاف «الحركة المصرية من أجل التغيير» (كفاية) وكذلك «الجمعية الوطنية من أجل التغيير»، جنبا إلى جنب مع الأهواء الشخصية والمصالح الذاتية الضيقة التى غلبها البعض على الصالح العام.
وقد استغلت السلطة، ممثلة فى المجلس العسكرى، واستغل المنافسون السياسيون، ممثلون فى التيار الإسلامى، هذه الآفة فى استقطاب رموز وحركات مدنية وتوظيفها فى وجه قوى مدنية رديفة.
وللتغلب على هذه المشكلات يحتاج التيار المدنى إلى تقارب أو حدوث اندماج بين وحداته وتنظيماته، سواء بتوحيد القوى والتجمعات الثورية أو بدخول الأحزاب الصغيرة تحت لواء الأحزاب الأكبر المنسجمة معها فى البرامج، ذائبة فيها تماما. كما يحتاج رموز التيار المدنى إلى امتلاك فضيلة «إنكار الذات»، والانخراط أكثر بين الناس ومشاطرتهم الأفراح والأتراح.
ويبدو المستقبل فى صالح التيار المدنى، شريطة أن يعى هو ذلك ويعمل من أجله بأسلوب علمى يتسم بالجرأة ويمتلك المغامرة ويراهن على تعزيز الثقافة المدنية بين الناس، ويدرك بشكل جلى مدى «نزيف المصداقية» الذى بدأ يعانى منه التيار الإسلامى بشكل جارح.
ولا يعنى هذا أن المستقبل هو للتيار الغارق أو الصارخ فى العلمانية الشاملة والكلية، أو ذلك الذى ينادى بإبعاد الدين عن الحياة. فمثل هذا التيار غير موجود إلا فى أفراد قلائل من بين المدنيين، والأغلبية الكاسحة تؤمن بدور الدين فى الحياة لكنها تريد إبعاده عن السلطة، وخلافها مع التيار الإسلامى ليس خلافا فى «التنزيل» إنما خلاف فى «التأويل».
فالمدنيون يمتلكون بمرور الوقت قدرة على التعبئة والحشد، ويستفيدون من اهتزاز صورة التيار السياسى المتخذ من الإسلام أيديولوجية له، وآكل مصداقيته لدى الشارع، ويحوزون أدوات للتغلغل فى أروقة المجتمع.
فضلا عن ذلك لم يعدم المدنيون القدرة على التأثير فى «التيار الإسلامى» ذاته. فكثير ممن ينتمون إلى جماعة الإخوان أخذوا فى الخروج عنها منجذبين إلى التيار المدنى فى أغلب أفكاره، بعضهم كوّن أحزابا، مثل «النهضة» و«الريادة» و«التيار المصرى»، وبعضهم يتحلق حول رموز، مثل الشباب المحيطين بالدكتور عبدالمنعم أبوالفتوح، عضو مكتب الإرشاد سابقا، والآن هناك من ينسلخ فى صمت عن جماعة الإخوان، منجذبا إلى مقولة التيار المدنى بضرورة فصل الدين عن السلطة وصراعاتها.
والأهم من هذا أن التيار الإسلامى، بما فيه السلفيون، يمارسون السياسة وخاضوا الانتخابات على خلفية «المشروع المدنى» حتى ولو أنكروا هذا أو تنصلوا منه. فبعد تحريم العمل الحزبى وتفسيق الديمقراطيين ونبذ البرلمان ها هم يكوّنون الأحزاب السياسية، وليست «الفرق»، ويتحدثون عن «الديمقراطية»، وليست «الشورى»، ويسعون إلى الدخول للبرلمان، وليس تكوين «أهل الحل والعقد»، وذلك عبر «الانتخابات»، وليست «البيعة».
وفى هذا توسل بالمشروع المدنى، فكرا وآليات، من أجل التمكين. ورغم حديثهم عن الاضطرار فى إقدامهم على هذه الخطوة فإن الواقع سيغيرهم شاءوا أم أبوا، ولا مجال للقفز على المكتسبات التى حازها المصريون عبر قرون من الكفاح، وليس بوسع أحد أن يفرض الآن مشروعا سياسيا قديما على دولة حديثة.
لكن تقدم المدنيين مشروط أكثر بترسيخ الآليات التى تضمن تداول السلطة، وتقوم على نزاهة الانتخابات وحريتها وشفافيتها واستقلالية الجهة التى تشرف عليها. وعلى هذا الأساس يجب أن يتوحدوا قبل جولات الانتخابات المنتظرة ويستفيدوا من إخفاقاتهم السابقة، ليحافظوا بقدر الاستطاعة على «مدنية الحكم».