لغة أكاديمية مفهومة 22

لغة أكاديمية مفهومة (2-2)

المغرب اليوم -

لغة أكاديمية مفهومة 22

عمار علي حسن

ذكرت فى مقالى السابق أربعة أسباب تقضى ضرورة أن يكتب الأكاديميون بلغة سلسة ومفهومة، وهنا أكمل.. والسبب الخامس فى نظرى هو أن العلم يجب أن يروم التغيير وإلا تحول إلى سفسطة فارغة أو قلائد للزينة. وقد يقول قائل إن هذا التغيير قد يكمن فى صناعة التلاميذ بالمدارس والجامعات، وإن هذا يكفى فى حد ذاته، ومن ثم لا حاجة لمد الأكاديميين أنوفهم خارج نطاق عملهم الأصلى. لكن هذه رؤية قاصرة لا تتصل بالواقع المعيش على أى حال من الأحوال. فالثابت أن أغلب تلاميذ العلم وطلابه تنقطع صلتهم بالدراسات الأكاديمية الصرف فور تخرجهم، إذ تأخذهم الحياة فى دواماتها التى لا تنتهى، حيث العمل والأسرة والصحاب وأوقات الترفيه، وبعض هؤلاء، خاصة فى مجتمعاتنا العربية، إن اتصلوا بعالم الكتب فإن اتصالهم ينصبّ على الكتب الثقافية والعلمية المبسطة. ومن هنا فإن صياغة الدراسات الأكاديمية بلغة جذابة وأخّاذة ومفهومة يساعد فى اتساع رقعة من تربطهم صلات متينة بعالم الأفكار والمعلومات، وبالتالى يكبر حجم الكتلة الحية فى الأمة، التى تنتجها تنمية إنسانية يقظة ودائمة. فضلاً عن هذا فإن ذلك التبسط غير المخل بشروط العلم وكفاءته يسهم فى إضافة مجموعات جديدة ممن تمكنوا من محو أميتهم إلى هذه الكتلة التى تؤمن بأن المعرفة سلطة وقوة، ليس للفرد فحسب، بل للمجتمع بأسره. والسبب السادس أنه لا يوجد حسم فى العلم الإنسانى بشتى فروعه، وهذه مسلّمة يقتنع بها الجميع، وما دام هذا الحسم غير موجود فإن الاحتجاج بضرورة جفاف اللغة وجفائها بدعوى الحفاظ على التقاليد الأكاديمية الصارمة، والتى يحتاجها السعى إلى الوصول لنتائج دقيقة، لا يقف على قدمين صلبتين. فالعلوم التطبيقية أو البحتة نفسها تشهد تطوراً هى الأخرى، ونظرياتها التى يعتقد كثيرون أنها راسخة كالجبال الرواسى يأتى من يهزها من جذورها ويضيف إليها أو يُسقطها. فنظريات إسحق نيوتن هزها ألبرت أينشتين بنظرية النسبية، ونحن نعيش اليوم مرحلة ما بعد أينشتين، حيث تتم مراجعة بعض مقولاته ومعادلاته. والسبب السابع هو وجود أكاديميين كثر من ضعاف القدرات وقليلى الموهبة، ومثل هؤلاء يكتبون بلغة غير مفهومة لأنهم هم أنفسهم لا يفهمون جيداً القضايا التى يكتبون عنها، ولا يلمون إلماماً دقيقاً بالتخصصات التى ينصرف إليها تعلمهم واشتغالهم. ومن المعروف أن من لا يفهم ليس بوسعه أن يُفهّم، وأن من يتبحر فى علم ما أو تخصص معين يستطيع أن يعبّر عنه بطريقة مفهومة تماماً، وبلغة سهلة ومختصرة، فكما قال النفرى: «إذا اتسعت الرؤية ضاقت العبارة». علاوة على هذا فإن بعض الأكاديميين يلجأون إلى ترجمة دراسات وأبحاث ونصوص مكتوبة بلغات أجنبية من دون أن يفهموها على الوجه الأكمل، ومن ثم تأتى لغتهم ملتوية وغير منبسطة ومفككة، تبدو فى بعض المواضع كأنها نوع من الهذيان. أما السبب الثامن فيتعلق بخطورة أن تترك ساحات ومساحات القراءة والاطلاع خارج الجامعة لكثير من الكتابات الهابطة والمبتذلة التى تبشر بالفوضى والخواء أو تعتمد على الغرائز، أو تتصف بالخطابة والإنشائية، وتخاصم المنهج العلمى فى التفكير. فمثل هذا المنتج المعرفى قد يحتشد بالمعلومات المغلوطة، والأخطر من هذا، فإنه قد يعتمد على طرق تفكير معوجّة أو غير علمية. وهذا الوضع يؤدى إلى زيادة تشوه العقل الجمعى للأمة، ولا يساعد الناس فى أن يتعاملوا بطريقة ناجعة مع المشكلات الحياتية، سواء هذه التى تعترض طريقهم كأفراد، أو تلك التى تعوق تقدم المجتمع برمّته. وحرص الأكاديميين الثقات على أن يدفعوا بإنتاجهم العلمى إلى خارج أسوار الجامعة سيساعد، من دون شك، فى حصار هذه الكتابات العشوائية، ومن ثم يحمى المواطنين منها. والسبب التاسع هو أن اشتباك الأكاديميين مع المجتمع يشجعهم على الإنتاج المعرفى الغزير، لا سيما فى جامعاتنا التى يتوقف جهد أغلب أساتذتها عند حدود تقديم أبحاث الترقى، وتصبح أطروحاتهم للدكتوراه هى أكبر وأهم بحث علمى فى حياتهم. فالخروج إلى فضاء المجتمع الرحيب يمنح هؤلاء الأساتذة شهرة ومكانة وقد يدرّ عليهم عائداً مادياً يساهم فى بناء استقلالهم واستقامتهم العلمية، التى كثيراً ما يجرحها العوز والاحتياج إلى ما فى يد السلطة من منافع وعطايا. لكل هذا استقر فى يقينى ميلٌ جارف إلى ضرورة أن يقفز الأكاديميون خارج أسوار جامعاتهم، وليقتصر قراء دراساتهم وأطروحاتهم المصاغة بلغة بحثية جافة على أعضاء لجان الترقى، وحاضرى السيمينارات العلمية، ومناقشى الرسائل الجامعية. نقلًا عن "الوطن" المصرية

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

لغة أكاديمية مفهومة 22 لغة أكاديمية مفهومة 22



GMT 23:46 2024 السبت ,21 أيلول / سبتمبر

القطب التيجاني... وحماية المستهلك الروحي!

GMT 23:34 2024 السبت ,21 أيلول / سبتمبر

هل ستتفتح زهور الصين وتثمر في أفريقيا؟

GMT 23:31 2024 السبت ,21 أيلول / سبتمبر

كيف نفسر البلطجة الإسرائيلية؟

GMT 23:26 2024 السبت ,21 أيلول / سبتمبر

قصة وعِبرة!

GMT 23:21 2024 السبت ,21 أيلول / سبتمبر

عن يمين وشمال

GMT 20:14 2024 الجمعة ,20 أيلول / سبتمبر

جوال قتّال

GMT 20:12 2024 الجمعة ,20 أيلول / سبتمبر

الدهناء وبواعث الشجن

ياسمين صبري بإطلالات أنيقة كررت فيها لمساتها الجمالية

القاهرة - المغرب اليوم

GMT 23:49 2024 السبت ,21 أيلول / سبتمبر

فيلم نادر يكشف سراً عن منى زكي
المغرب اليوم - فيلم نادر يكشف سراً عن منى زكي

GMT 22:07 2020 الإثنين ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

"عنكبوت" فيراري ينطلق بقوة 1000 حصان نسخة مكشوفة من SF90

GMT 08:20 2018 الإثنين ,02 إبريل / نيسان

يارا تظهر بإطلالة مثيرة في فستان أخضر مميز

GMT 11:17 2022 الأربعاء ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

سعر الريال القطرى أمام الجنيه المصرى اليوم الأربعاء 23-11-2022

GMT 14:49 2021 الخميس ,26 آب / أغسطس

4 ساعات غطس للرجل المغامر

GMT 03:18 2020 الأربعاء ,03 حزيران / يونيو

منظمة الصحة العالمية تزف بشرى سارة بشأن "كورونا"
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib