عمار علي حسن
قبل أيام التقيت بعض القراء والمهتمين بالأدب، بناء على طلبهم، لنتناقش حول روايتى الأخيرة «سقوط الصمت»، وما إن جلسنا حتى سألنى أحدهم: هل نعتبر هذه الرواية رداً على الذين يثيرون الشبهات حول ثورة يناير؟ فابتسمت وأجبته: هذا عمل فنى عن حدث إنسانى كبير، لكن بالقطع من يقرأه، سيعى جيداً أن ثورة المصريين لم تكن أبداً «مؤامرة» ولا «خطة أجنبية لإسقاط نظام مبارك» كما يزعم البعض الآن، فى محاولة يائسة لتشويه الثورة، أو تصوير 30 يونيو على أنه ارتداد على 25 يناير وليس استكمالاً له، خاصة أن الإخوان كانوا حلقة أخيرة فى نظام «مبارك» أو هم الوجه الآخر من العملة. ولو كان بوسع المتآمرين أن يصنعوا ثورة فى بلادنا، لاستطاعت المؤامرة الأجنبية الحالية على مصر أن تخرج الملايين من بيوتهم لمناصرة الإخوان والارتداد على «خريطة المستقبل».
وأكملت حديثى: «البطولة فى روايتى جماعية، ومنتقاة بعناية من الواقع، ولا يمكن أن تدفع أى مؤامرة كل هذه الأصناف البشرية لتتوحد فى حشود هائلة على هتاف واحد وهو إسقاط النظام. وقد كتبت عما رأيته وعشته وتأملته جيداً، فالحقيقة التى لا ينكرها إلا مخبول أن ملايين المصريين قد شاركوا فى ثورة يناير وكانت مطالبهم مستحقة لأن شروط الثورة على فساد مبارك واستبداده كانت متوفرة بشدة».
وأتذكر أننى قد قلت فى اليوم الثالث للثورة، الذى حمل اسم «جمعة الغضب»: إن «الثورة انتقلت من فيس بوك إلى ناس بوك» تعبيراً عن نزول حشود جماهيرية هائلة تنتمى إلى كافة الشرائح الاجتماعية المصرية، وليس فقط المنتمين إلى الطليعة الثورية التى دعت إلى التظاهر ضد «مبارك» عبر مواقع التواصل الاجتماعى على شبكة الإنترنت.
وحين أقول إن «سقوط الصمت» النابتة من رحم الواقع فيها ما يرد على المشككين فى ثورة يناير، لا أطمئن شباباً خائفاً من هؤلاء على ثورته فحسب، بل أحيل من يحاولون تشويه يناير أو الانتقاص منها إلى مختلف النماذج البشرية التى شاركت فى الثورة، حيث الثورى الحالم والانتهازى، وشباب من الشوارع الخلفية وأبناء الطبقة الوسطى، بالإضافة إلى اليساريين والليبراليين والإخوان والسلفيين واللامبالين، والعمال والفلاحين والموظفين والإعلاميين والمثقفين، والشيوخ والصبية والرجال والنساء، والقاضى العادل، ورسامى الجرافيتى وصانعى اللافتات وكاتبى الهتافات والشعارات، وأطفال الشوارع المشردين ومتحدى الإعاقة، والبلطجية والمتحرشين والمخبرين، والأميين ومجيدى النقر على رقعة الحاسوب ليصنعوا الدهشة والأمل فى العالم الافتراضى، وسيدات المجتمع، وفتيات واجهن كشف العذرية والسحل فى الشوارع الملتهبة، وأخريات قاتلن كالرجال حين فرضت السلطة المستبدة على الثوار مغادرة التعبير السلمى عن الغضب. ولا يمكن أن يكون كل هؤلاء، الذين انتقيتهم بعناية فى روايتى، محاولاً أن أرسم ملامح تفاعلهم النفسى والإنسانى والاجتماعى مع حدث ثورة يناير، قد جاءوا ليشاركوا فى مؤامرة، إنما فى ثورة رفعت شعارات مستحقة عن العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية.
ورد قارئ آخر متسائلاً: وهل تكفى الرواية دليلاً للرد أو وثيقة نضعها فى وجه هؤلاء؟ فهززت رأسى وقلت له: هذا سؤال مهم، وأجيبك على الفور أن هذا ليس دور الرواية، ولا الأدب عموماً، لكن هناك أمرين فى هذا الصدد، الأول أنت تتعامل مع رواية واقعية، شخصياتها من لحم ودم، ومن طين ريفنا وشوارع مدننا الخلفية، ومهما بلغ حجم الجمالى والتخييلى فى النص فإنه يجسد ما عشته كمؤلف، كتب عن شىء عرفه جيداً وشارك فيه، وليس محض خيال. وثانياً أنت تدخل فى صراع مع آخرين حول دور الزمن فى تحديد وتعريف ما جرى، فالإخوان بدأوا يكتبون عن أنهم هم الذين قادوا ثورة يناير، وبعض المنتمين إلى نظام «مبارك» أخذوا يشككون فيها، وعلينا ألا نترك لأمثال هؤلاء أن يحددوا هم ما جرى أو يضعوا له المصطلح المناسب، بل يجب أن نزاحمهم، سواء بالصورة والرسم أو البحث التاريخى وتسجيل اليوميات وكتابة المشاهدات والانطباعات أو بالأعمال الفنية مثل الروايات والقصص والأشعار والأفلام وغيرها، ولنتذكر فى هذا ما نقوله دوماً من أننا لا نفهم السياق الاجتماعى لثورة 19 وما أعقبها على وجه دقيق إن أهملنا قراءة ثلاثية نجيب محفوظ وغيرها من أعماله. وعلى المنوال ذاته لعبت روايات عالمية عديدة دوراً فى إفهامنا البيئة الاجتماعية والنفسية التى دارت فيها الأحداث الكبرى، والمثال الناصع على هذا هو رواية «الحرب والسلام» للروائى الروسى الكبير ليو تولستوى التى جسدت حالة المجتمع الروسى أثناء الحرب العالمية الأولى.
وبعد أن تجاذبنا أطراف الحديث عن الرواية وحولها اتفقنا فى النهاية على أن أحداً ليس بوسعه أن يزوِّر تاريخاً له حراس، كما ليس بوسع أى سلطة أن تتجاهل مطالب مستحقة لشعب، جسدتها ثورة يناير، التى اختطفها الإخوان، واستعملوها لاختطاف الدولة نفسها، فاسترد الشعب دولته فى 30 يونيو، ولن ينفك عن مطالب ثورة يناير، التى تجسد -على بساطتها- شروطاً أساسية لحياة تليق بآدميين حقيقيين.
نقلاً عن " الوطن "