شجرة الثورة 1

شجرة الثورة (1)

المغرب اليوم -

شجرة الثورة 1

عمار علي حسن

لم تدهسها الأقدام، لأن كل من فى الميدان كان حريصاً على أن يمر من جوارها بسلام، يمكن لساقه أن تداعب أوراقها بلطف، ويمكن أن يميل عليها ويشمها فى امتنان ورضاء، فتفوح فى أنفه بعطر أيام الغضب، عرق الحماس والتزاحم، ورائحة الجنة التى تنتظر الذين سقوها بدمهم عند حافة الأمسيات الملتهبة. أحدهم، الذى لا يعرفه أحد، غرسها يوم جمعة الغضب على الطرف الأيمن للكعكة الحجرية، وقال لمن تابعوه وهم يبتسمون: - إنها شجرة الثورة. نظروا إليه وقالوا: - مجرد فسيلة لشجرة زينة. فابتسم وقال: - لكنها هنا فى الميدان. هزوا رءوسهم مصدقين على كلامه، وقالوا لكل من سأل عليها، وهى تداعب الريح: - غرسناها بينما كان رصاص القناصة يمرق فوق رءوسنا. كثيرون يقولون إنهم شهدوا اللحظة التى حطت فيها أجنحتها فوق الطين، وفردت أقدامها تحته، وسحبت فى هدوء من النسائم التى هبت من فوق المتحف المصرى قادمة من النيل، الذى يَهِب الشجرة وأصحابها ماء عذبا. لم تسق الشجر بماء واحد، فبعض الذين جُرحوا فى المعارك الأمامية التى خاضها الثوار بأيديهم ضد الهراوات وقنابل الغاز والرصاص المطاطى، جاءوا وجلسوا جوارها وتركوا دماءهم تسيل إليها فرشفت منها. غادر الثوار الميدان عقب رحيل الطاغية، وظلوا فى بيوتهم صامتين خمسين يوما، ينتظرون شيئا أن يتم، لكن الذين وزعوا الكرسى الكبير على عجيزاتهم الضامرة أبقوا الأمر على حاله. وحين نزلوا مرة أخرى وجدوا الشجرة قد شبت نحو السماء قليلا، مدوا أيديهم وداعبوا أوراقها الصغيرة، ورأوها وهى تصنع لفائفها على جوانب ساقها النحيلة. وتوالى نزولهم، وتوالى تقدمها خطوات فى الهواء، حتى نزل الجيش ذات يوم وأخذ منهم الميدان، وقال الموالون له: - حررنا ميدان التحرير. وضعوا الجنود حول الكعكة الحجرية فى شهر الصيام، وتركوا الشمس تأكل أقفيتهم، كانوا يقفون كالألف بين الواحد وزميله نصف متر، وجاء الثوار من بعيد يرمقونهم، وقفوا على مداخل الميدان يرثون الأيام التى كانوا فيها هنا، بعضهم حاول أن يرى الشجرة من بين الأفخاذ المتتابعة. سأل أحدهم زميله: - أين الشجرة؟ فراح يميل برأسه يمينا ويسارا، ويمد عينيه ليخترق أجساد الجنود، ثم مد إصبعه ناحية اثنين منهم، وقال: - ها هى. انصرف الجنود بعد أيام، وبقيت هى، يسكب الثوار عند جذرها بعض ما معهم من ماء، فتبتسم، وتعلو حتى صارت شجيرة يافعة، لم يمهلوها وقتا طويلا حتى تصبح شجرة كاملة فيقطفوا ثمار ما زرعوا، استعجلوا وبدأ الحصاد، والحصاد كان تحويل الأغصان الطرية إلى جدران، تعلق عليها لافتات، حتى ازدانت جميع فروعها وأوراقها الخضراء بصفحات عما يريدون ويحلمون. كتبوا بخطوط مختلفة الأحجام والألوان مختصر تاريخ الثورة: «عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية» «يا نجيب حقهم.. يا نموت زيهم» «يسقط حكم العسكر» «دا مفهومكم للعدالة.. ترموا الشهدا فى الزبالة؟» «اتنين ملهومش أمان.. العسكر والإخوان» «يسقط يسقط حكم المرشد» «متعبناش متعبناش.. ثورة كاملة وإما بلاش» «ثوار أحرار هنكمل المشوار» وإلى جانب الشعار الأخير، وضعوا صور بعض الشهداء، وتزاحمت الكلمات والصور، حتى لفت الشجرة من كل جوانبها، ومن أخمصها إلى ناصيتها، لا يظهر منها إلا قطعة من الساق عند الجذر، يراها القادمون من بعيد. أما من يقف بجانبها فيحتاج إلى أن يجلس ويميل رأسه حتى يراه، ويلزم أن ينام على ظهره، ويدفن رأسه تحت الأغصان المتهدلة إلى أسفل حتى يمسك به. أوراقها تنظر من أعلى، محاولة أن ترفرف بين اللافتات، لكنها لم تفقد أبداً نضرتها، ومداعبتها الدائمة للنسائم الطرية. (ونكمل غداً إن شاء الله تعالى) نقلاً عن جريدة "الوطن"

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

شجرة الثورة 1 شجرة الثورة 1



GMT 23:46 2024 السبت ,21 أيلول / سبتمبر

القطب التيجاني... وحماية المستهلك الروحي!

GMT 23:34 2024 السبت ,21 أيلول / سبتمبر

هل ستتفتح زهور الصين وتثمر في أفريقيا؟

GMT 23:31 2024 السبت ,21 أيلول / سبتمبر

كيف نفسر البلطجة الإسرائيلية؟

GMT 23:26 2024 السبت ,21 أيلول / سبتمبر

قصة وعِبرة!

GMT 23:21 2024 السبت ,21 أيلول / سبتمبر

عن يمين وشمال

GMT 20:14 2024 الجمعة ,20 أيلول / سبتمبر

جوال قتّال

GMT 20:12 2024 الجمعة ,20 أيلول / سبتمبر

الدهناء وبواعث الشجن

ياسمين صبري بإطلالات أنيقة كررت فيها لمساتها الجمالية

القاهرة - المغرب اليوم

GMT 23:49 2024 السبت ,21 أيلول / سبتمبر

فيلم نادر يكشف سراً عن منى زكي
المغرب اليوم - فيلم نادر يكشف سراً عن منى زكي

GMT 22:07 2020 الإثنين ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

"عنكبوت" فيراري ينطلق بقوة 1000 حصان نسخة مكشوفة من SF90

GMT 08:20 2018 الإثنين ,02 إبريل / نيسان

يارا تظهر بإطلالة مثيرة في فستان أخضر مميز

GMT 11:17 2022 الأربعاء ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

سعر الريال القطرى أمام الجنيه المصرى اليوم الأربعاء 23-11-2022

GMT 14:49 2021 الخميس ,26 آب / أغسطس

4 ساعات غطس للرجل المغامر

GMT 03:18 2020 الأربعاء ,03 حزيران / يونيو

منظمة الصحة العالمية تزف بشرى سارة بشأن "كورونا"
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib