عمار علي حسن
«كن ممتازاً فى كلية عادية خير من أن تكون عادياً فى كلية ممتازة».. هكذا نصحنا مدرس اللغة العربية فى مدرسة المنيا الثانوية العسكرية بعد ظهور النتيجة، وهو الذى كان يقول لكل منا قبل الامتحانات: «صوب هدفك نحو النجم لعلك تصيب القمر»، قاصداً أن يضع كل منا فى حسبانه ويعمل باجتهاد وجد ليحصل على الدرجة النهائية لعله ينقص عنها قليلاً. كان هذا فى عام ١٩٨٥، قبل أن يفسد كل شىء فى العهد البائس الذى أرادت ثورة يناير أن تذهب به إلى سلة مهملات التاريخ.
كان هذا العهد هو الذى صار فيه وزير التربية والتعليم يتعامل مع المدارس والمدرسين والتلاميذ والطلاب على أنهم متهمون إلى أن تثبت براءتهم، وصار فيه أولياء الأمور يبحثون عن «الخلاص الفردى» لأبنائهم، بالضغط عليهم حتى الانفجار كى يحصل كل واحد منهم على مائة وعشرين فى المائة! لينجو بنفسه من التهلكة، ويفر من السفينة التى تتأرجح فى موج كالجبال.
ذهب مبارك ووزير تعليمه وبقى نظامه بوزراء آخرين تعاقبوا منذ الثورة وحتى الآن، وسنحتاج إلى وقت أطول حتى نخرج من إسار السياسات الفاسدة البائسة التى كانت متبعة، وساهمت إلى حد بعيد فى إهمال التعليم وجعل الثانوية العامة كابوساً مخيفاً للأسر المصرية، إلى درجة أن البعض صار يطلق عليها «ثانوية سيندروم» أو «متلازمة الثانوية» على غرار المتلازمات المرتبطة بالأمراض النفسية والعضوية، رغم أن الأمر برمته وهم فى وهم.
نعم وَهْمُ وخرافة، فالتعليم لم يعد وسيلة مضمونة للحراك الاجتماعى، والأكفأ ليس بالضرورة هو الأنجح، وأهل الثقة الذين يشهد لهم المخبرون والعسس مُقدَّمون على أهل الخبرة الذين يشهد لهم العلم والواقع. ومع هذا يصر الناس على الضغط على أولادهم، فبعد أن كان من يحصل على دروس خصوصية يخفى نفسه ويسير فى شوارع جانبية حتى لا يراه زملاؤه فينعتونه بالبلادة والخيبة، باتت الدروس الخارجية وسيلة للتباهى، وأصبح من لا يتعاطاها محل سخرية وتهكم. بل زاد الأمر سوءاً إلى درجة أن الفصول صارت خاوية وأصبحت مراكز الدروس الخصوصية هى الأصل.
كل هذا يدور فى عملية تعليمية وهمية، تخاطب أردأ الملكات العقلية وهى الذاكرة، لأن الحفظ مقدم على الفهم، والاجترار له أهمية عن الابتكار، وعلماء التربية الثقات لا يُعْتد برأيهم، وأغلب ما يقدمونه من دراسات واقتراحات يجد طريقه سريعاً إلى سلال المهملات.
هكذا أخبرنى ذات يوم شيخ التربويين العرب الدكتور حامد عمار، الذى رحل عن دنيانا مؤخراً. توجع الرجل وتنهد بمرارة وقال: «طلبونى ذات مرة فذهبت لأجد جهابذة التربية فى مصر مجتمعين عند وزير التعليم، جلسنا فطلب منا الرجل أن نعكف على وضع خطة عمل لتطوير مناهج التعليم، فامتثلنا للأمر مرحبين فرحين، وعقدنا جلسات مطولة، انتهت بتوصيات دقيقة، لنكتشف فى النهاية أن الخطة كانت منذ البداية موضوعة فى مكتب الوزير، لكن استيفاء الإجراءات كان يقتضى تعذيب خبراء التربية فى اجتماعات فارغة».
ذهب هذا الوزير وجاء كثيرون بعده، قبل الثورة وبعدها، دون أن يطرأ تغيير جوهرى على العملية التعليمية، ولا أحد يريد أن يدرك على نحو جاد أنه دون تعليم جيد لن تتقدم بلدنا خطوة واحدة إلى الأمام.