عمار علي حسن
وتتوزع خريطة التيار المدنى المصرى على ثلاثة سبل؛ الأول منظم ذو بنية وله هيكل وصورة اجتماعية مجسمة محددة القوام. والثانى مبعثر لا يمكن حصره وتحيطه دوماً ظنون، ويفتقر باستمرار إلى البرهان الناصع الذى يعينه ويرسم ملامحه بدقة أو يحصيه. والثالث هو الذائب فى الرؤوس والأفئدة والقلوب، يسكن الأذهان والنفوس والضمائر، من أفكار ورؤى ومعانٍ وقيم يؤمن أصحابها بالطريق المدنى فى السياسة والاجتماع والثقافة، ويرومون طيلة الوقت دولة عصرية، تعيش زمانها الآنى، وليس فى الماضى القريب أو السحيق.
ويسير التيار المدنى المنظم فى اتجاهات ثلاثة؛ الأول توجده الأحزاب السياسية، والثانى يرتبط بالحركات الاجتماعية الجديدة، والثالث يتمثل فى جماعات الضغط.
ويبقى معيار المفاضلة الأبرز بين الأحزاب فى الوقت الراهن هو زمن النشأة والانطلاق، الأول تقليدى، يتمثل فى الأحزاب المدنية (يسارية ويمينية) التى عاشت عقوداً من الزمن تكافح من أجل ديمقراطية قوامها التعدد الحزبى وتبادل السلطة واتساع قيمة الحرية وترسخها فى المجال العام.
وهنا يطل برأسه كل من حزب الوفد الجديد، وحزب التجمع، والحزب العربى الناصرى، وإلى جانبها العديد من الأحزاب الصغيرة التى لم يكن لها تأثير ملموس قبل الثورة، وظلت فى مجملها العام جزءاً من المظهر الديمقراطى الخادع الذى حاول النظام استرضاء الناس به فى الداخل وتضليلهم فى الخارج.
ثم جاءت الثورة لتفتح الباب واسعاً أمام قيام أحزاب ضخت أفكارها وحجم عضويتها فى شرايين «التيار المدنى»، فى مقدمتها أحزاب «المصريين الأحرار» و«المصرى الديمقراطى الاجتماعى» و«العدل»، وإلى جانبها نحو عشرين حزباً جديداً رأت النور عقب ثورة يناير، بعضها خرج من عباءة الحزب الوطنى الديمقراطى (الحاكم) الذى أسقطه الثوار وحله القضاء.
أما الحركات الاجتماعية فتتوزع على هذه التى قامت قبل الثورة واستمرت بعدها مثل «كفاية» و«الجمعية الوطنية للتغيير»، وتلك التى نشأت بعدها مباشرة وفى طليعتها الائتلافات والاتحادات الثورية التى شكلها الشباب وأصبحت بالعشرات، بعضها ينتمى إلى روح الثورة قلباً وقالباً، وبعضها تم دسه عليها فى سياق الخطة المنظمة التى رامت التفريغ التدريجى للثورة من مضمونها، وبناء جدار عازل بين الطليعة الثورية والقاعدة الشعبية.
وبالنسبة لجماعات الضغط، المتمثلة فى النقابات المهنية والعمالية ومختلف الاتحادات والروابط، فهى تستعيد عافيتها فى الوقت الراهن، بعد طول إلحاق بالسلطة التنفيذية بفعل قوانين وقرارات جائرة. وهذه التكوينات الاجتماعية تشكل البنى الوسيطة التى تعد شرطاً أساسياً للديمقراطية الناجحة والناجعة، لأنها تؤكد وتعزز استقلال المجتمع، وتجمع مصالح وتنظم جهود ملايين الأفراد بغية الضغط على أهل الحكم، ودفعهم إلى الاستجابة لمطالب هؤلاء.
وبالطبع فإن هذه الكيانات يوجد فيها التياران السياسيان «المدنى» و«الدينى» لكنها، من حيث التصنيف، هى جزء أصيل من المجتمع المدنى، ونظراً لارتباطها بالمصالح المباشرة للأفراد فإن نزوعها إلى «التمدين» أعلى من نزوعها إلى «التديين». وهى بحكم وظيفتها تنشغل بمسائل دنيوية حتى لو كان القائمون عليها أو المتصدرون لها ينتمون إلى التيارات السياسية ذات الإسناد أو المرجعية الإسلامية.
وإلى جانب هذه التنظيمات، الموزعة بين مجتمع «أهلى» يعمل فى مجال «النفع العام»، هناك التشكيلات والتجمعات الحديثة التى تعمل فى مجال حقوق الإنسان وتعزيز الديمقراطية وتمكين المرأة والدفاع عن حقوق المهمشين.. إلخ.
(ونكمل غداً إن شاء الله تعالى)