سُلطة عبدالناصر وسياسة صدقى

سُلطة عبدالناصر وسياسة صدقى

المغرب اليوم -

سُلطة عبدالناصر وسياسة صدقى

عمرو الشوبكي

جملة الأستاذ محمد حسنين هيكل عن أنه لا يمكن أن تحصل على سُلطة عبدالناصر وتطبق سياسات إسماعيل صدقى (أحد رؤساء وزراء العهد الملكى، واتسم عهده بالاستبداد دون تحقيق إنجازات تُذكر) أثارت جدلاً واسعاً، وهى جملة لا يجب «ِشخصنتها» أو إسقاطها على عصر دون آخر، إنما البحث فى دلالاتها ومعناها، على ضوء تصاعد خطاب يبحث عن صلاحيات مطلقة دون تحديد واضح للسياسات والأهداف.

والحقيقة أن إشارة الأستاذ التى نشرها زميلنا محمد سعد عبدالحافظ فى «الشروق»، يوم الاثنين الماضى، تقول إن سُلطة عبدالناصر لم تكن ديمقراطية، ولكنَّ مشروعه السياسى (رغم ما فيه من أخطاء) غيَّر من خريطة مصر الاجتماعية ونظامها السياسى، كما غيَّر من خريطة العالم، وقاد دول العالم الثالث نحو التحرر والاستقلال.

سلطوية نظام عبدالناصر وثورية نظامه وغياب الديمقراطية أمور واضحة، ولكن قابلها فى نفس الوقت قدرة استثنائية على الإنجاز وتغيير الواقع الاجتماعى والسياسى فى عصر كان يمكن فيه للقائد الفرد وللحزب الواحد أن يُحدث هذا التغيير، فما بالنا أن البعض يتحدث الآن وفقط عن القائد الفرد دون أى ظهير حزبى وسياسى.

والمؤكد أن تجربة عبدالناصر لم تكن ديمقراطية، مثلها مثل كل تجارب التحرر الوطنى فى بلاد العالم (باستثناء الهند)، فقد بنت «نُظم الحزب» أو «الكل فى واحد»، ورفعت شعارات الاصطفاف الوطنى من أجل التحرر ومواجهة الاستعمار، ولم تكن الديمقراطية مطروحة كأولوية بالنسبة لكل هذه التجارب، بل إن تعثر التجربة شبه الليبرالية فى مصر قبل ثورة يوليو كان أحد الأسباب الرئيسية وراء نجاح ثورة الضباط الأحرار فى 23 يوليو.

والحقيقة أن قدرات وخبرات عبدالناصر السياسية وظروف عصره هى التى سمحت له بتأسيس تنظيم الضباط الأحرار، وهو فى بداية الثلاثينيات من عمره ضارباً القواعد المتعارف عليها فى أى مؤسسة عسكرية منضبطة ومهنية، لا تقبل، بل لا تتسامح مع أى تنظيمات سرية تخترق صفوفها، وتعامل الرجل مع قوى سياسية متعددة من شيوعيين وليبراليين وإخوان مسلمين، وقام بثورة ضد النظام الملكى القائم من خلال بناء تنظيم ثورى وليس بانقلاب عسكرى.

إن سُلطة عبدالناصر الواسعة استُمدت من حالة ثورية استخدمت وسائل عصرها فى اختراق التنظيمات السياسية للجيوش فى كثير من دول العالم الثالث، وإجراء تغييرات ثورية فى بنية النظام السياسى، صحيح أن هذه الوسيلة اختفت تقريباً من العالم، وأصبحت الجيوش تتدخل فى أحيان استثنائية فى المسار السياسى بعد تحرك شعبى كما حدث مؤخراً فى مصر، أو فى تايلاند وباكستان نتيجة فشل الأحزاب.

صحيح أن الجيوش الحديثة المنضبطة نجحت فى منع اختراق التنظيمات السياسية لها، وهو فى كل الأحوال أمر إيجابى، وتحول الجيش المصرى على يد عبدالناصر بعد نكسة 67 إلى جيش وطنى محترف ساهم بشكل حاسم فى انتصاره فى 73.

عبدالناصر لن يتكرر، ليس فقط لصفاته الشخصية، إنما أساساً لأن الظروف التى صاحبت عصره تختلف جذرياً عن الظروف الحالية، فتربيته السياسية وإيمانه بالتغيير الثورى (عرف الثورة بأنها علم تغيير المجتمع) وامتلاكه أساساً مهارات السياسى، أمر لم يعد متاحاً فى الجيوش الحديثة المنضبطة، وهو ما جعله منذ اليوم الأول يمتلك مشروعاً سياسياً محدد المعالم طوَّره مع الوقت، وعدَّل فيه، وراجعه وأخطأ وأصاب.

أجيال ثورة 1919 وثورة يوليو كانت قضيتها الأساسية هى الاستقلال والتحرر الوطنى، وليس الديمقراطية والليبرالية، ولم يدَّع عبدالناصر فى أى مرحلة من مراحل حكمه أنه زعيم ليبرالى أو ديمقراطى، إنما كان بطل تحرر وطنى دافع عن العدالة والاشتراكية ومناهضة الاستعمار.

ويأتى العصر الحالى وتسمع كل يوم خطاباً إعلامياً يطالب بسلطة مطلقة لرئيس الجمهورية، ويعلن كل يوم أن الدستور والبرلمان والأحزاب والمجتمع الأهلى، وحتى النقد بالكلمة، هى جميعاً مُعطلة للمسيرة، ويجب أن تتركز السلطة فى يد شخص واحد حتى يمكن للبلد أن ينجز ويتقدم.

والحقيقة أن الإنجازات التى تحققت على مدار عامين، والإنجازات التى يمكن أن تتحقق، لا تحتاج إلى سلطة مطلقة أو تفويض على بياض كما جرى فى عهد عبدالناصر (عصر التحرر من الاستعمار)، إنما هى بحكم طبيعتها تحتاج إلى تعدد آراء ومهنية فى العمل ومجتمع نشط ومنظم ومبادر، ومنظومة تعليم لا يقودها وزراء التعليم العالى الحاليون.

والحقيقة أن أى استدعاء للسلطة المطلقة بعد أن خرج الاستعمار من بلادنا سيعنى العودة لمنظومة «الفشل الكبير»؛ لأن مصر الآن تحتاج إلى نظم ديمقراطية، وإلى قيم المهنية والإصلاح، والرؤية التى تنظر إلى تفاصيل الصورة، وحقيقة المشاكل المعيشة، وليس بالإحالة للشعارات العامة والهتافات الرنانة التى سبق أن أطلقها البعض قبل هزيمة 67.

جملة هيكل حمَّالة أوجه، ولكن يقيناً هى تقول لنا: ابحثوا عن الإنجازات الحقيقية قبل أن تبحثوا عن السلطة الواسعة، لأنكم إذا ركزتم فى الثانية لن تحققوا أى شىء يُذكر فى الأولى.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

سُلطة عبدالناصر وسياسة صدقى سُلطة عبدالناصر وسياسة صدقى



GMT 14:47 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

حرب اعتزاز ومذكرة مشينة

GMT 14:46 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

شالوم ظريف والمصالحة

GMT 14:44 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

العدالة... ثم ماذا؟

GMT 14:42 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

لبنان وسؤال الاستقلال المُرّ

GMT 14:40 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

شاورما سورية سياسية مصرية

GMT 14:38 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الحضارة بين العلم والفلسفة أو التقنية والإدارة

GMT 14:01 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

استقرار لبنان... رهينة التفاوض بالنار

GMT 13:59 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

تغييرات في تفاصيل المشهد

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ المغرب اليوم

GMT 13:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 01:49 2019 الثلاثاء ,10 كانون الأول / ديسمبر

المغربية عزيزة جلال تعود للغناء بعد توقف دام 30 عامًا
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib