عمرو الشوبكي
شاركت الأسبوع الماضى فى ندوة حول التفاوض والتسويات السياسية فى تونس العاصمة، وفُتح فيها النقاش حول مفهوم بدا أنه مدان فى الحياة السياسية المصرية، وهو فكرة التفاوض بين فرقاء الساحة السياسية، سواء كان بين النظام القائم والمعارضة أو بين التيارات السياسية المختلفة.
وقد ترسخ على الساحة السياسية المصرية بدرجة كبيرة تجريم التفاوض بين التيارات السياسية المختلفة، سواء كانت بين القوى الثورية وغير الثورية، أو بين التيارات المدنية والإسلامية، حتى أصبحت فكرة التفاوض والحوار مجرمة فى حد ذاتها، رغم أن كل تجارب التحول الديمقراطى الناجحة فى أوروبا الشرقية وأمريكا الجنوبية، وكل من إسبانيا والبرتغال وجنوب أفريقيا وغيرها، اعتمدت على فكرة الحوار والتفاوض بين فرقاء الساحة السياسية، وإن الإدانة والترحيب يكونان مرتبطين عادة بنتائج الحوار وليس بالحوار فى حد ذاته.
وقد قدمت فى هذا المؤتمر ورقة مهمة عن تجربة جنوب أفريقيا فى التفاوض، وأهميتها فى كون هذا البلد يمثل نموذجا للتمييز العنصرى وليس فقط نظاما غير ديمقراطى، واضطر فيه حزب المؤتمر الوطنى بزعامة الراحل العظيم نيلسون مانديلا أن يحمل السلاح من أجل انتزاع حقوق شعبه والقضاء على نظام الفصل العنصرى.
ومع ذلك لم تُحل الطبيعة الخاصة لنظام جنوب أفريقيا دون بدء مفاوضات بين النظام وأركان حزب المؤتمر تمهيداً لإعلان التسوية السياسية، وبدأت المباحثات حول المستقبل الدستورى لجنوب أفريقيا سراً أولاً وبصورة غير رسمية بين مانديلا، الذى كان وقتها مازال مسجونا، وبين أحد الوزراء الكبار فى حكومة الفصل العنصرى فى 1985. أحدثت هذه المباحثات جدلاً داخل حزب المؤتمر الوطنى الأفريقى، الذى خشى البعض من قادته أن يقوم مانديلا بإبرام اتفاق مع حكومة الفصل العنصرى دون الرجوع للحزب.
واقترحت الحكومة العنصرية فى البداية نظاما دستوريا جديدا يستند لكيان فيدرالى أو كونفيدرالى، يمكّن السود من المشاركة فى العملية السياسية وصولاً إلى مجلس الوزراء. وقامت الحكومة أيضاً باقتراح تكوين مجلس قومى للتفاوض حول دستور جديد يتم عرضه على البرلمان الأبيض.
ورفضت حركة التحرير هذا الاقتراح لأنه كان مازال يعتمد على التفرقة العنصرية، وكان سيعمل على أن تظل السلطة العليا فى يد البيض، وطالبت بالتفاوض على نظام دستورى جديد يعطى حقوقا متساوية للبيض والسود على السواء، بالإضافة إلى مطالبتها بالإفراج عن المسجونين السياسيين والممارسة الحرة للسياسة، ورفع الحظر عن الكيانات السياسية والحصول على كافة الحقوق الدستورية.
وقد أسفرت المفاوضات الطويلة والصعبة بين الجانبين عن إعلان الرئيس دى كليرك، فى فبراير 1990، عن رفع الحظر عن حزب المؤتمر الوطنى الأفريقى، والإفراج عن قادته السياسيين بمن فيهم مانديلا، وأعقب ذلك الإعلان بدء المباحثات الرسمية فى مؤتمر إرساء مبادئ الديمقراطية فى جنوب أفريقيا (كوديسا 1) فى ديسمبر 1991، والذى فتح الباب فى السابع والعشرين من إبريل 1994 أمام إجراء أول انتخابات ديمقراطية فى جنوب أفريقيا. وجرى العمل بالدستور المؤقت وانتُخب نيلسون مانديلا رئيساً للبلاد، وشغل الرئيس السابق، دى كليرك، منصب أحد النائبين.
جنوب أفريقيا مثلت تجربة نجاح مؤكد عبر مسار تفاوضى صعب وقاس، كثيرا ما تعرض فيه المفاوضون لاتهامات حادة، إلا أن إيمانهم بضرورة التغيير ونقل البلاد للأمام جعلهم يتعاملون مع التفاوض كوسيلة هدفها بناء الديمقراطية والمساواة، فلم يتوهوا فى تفاصيلها ولم يستسلموا لرذاذ التخوين لأنهم بدأوا من سقف منخفض كما جرى فى بلاد أخرى غابت عنها ثقافة التفاوض وفشلت فى الوصول إلى توافقات كبرى وتاريخية.