حسن نافعة
شخصية غير تقليدية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، تميزت بالبساطة والتواضع والتلقائية فى التعامل مع الآخرين، دون تمييز. احترف «الباز» الدبلوماسية كمهنة، لكن عشقه الحقيقى كان للثقافة والفن. وحين اقتربت منه أيقنت أنه من الشخصيات القليلة التى يمكننى أن أختلف معها بشدة، دون أن أفقد احترامى لها، وأن أجاهر بهذا الاختلاف وأنا مطمئن تماماً إلى أننى لن أتلقى بسببه طعنة من الخلف أو أتعرض للتآمر والتشويه.
سمعت كثيراً عن أسامة الباز، قبل أن ألتقى به شخصياً، وشد انتباهى ما جاء فى مذكرات محمد إبراهيم كامل، وزير الخارجية الأسبق، عن دوره فى مفاوضات كامب ديفيد. وشاءت المصادفات أن أتقابل، عام 1982 مع أحد أساتذته فى جامعة هارفارد، وحين تطرق حديثى معه حول مفاوضات كامب ديفيد ودور أسامة الباز، إلى أن الأستاذ يعرف تلميذه جيداً توقف مطولاً عند بعض مفاتيح شخصيته، وعلمت منه أشياء كثيرة لافتة منها مثلاً أن «أسامة» كان طباخاً ماهراً، وأن اهتمامه بإعداد الوجبات الشهية فاق اهتمامه بالدراسة!.
تعرفت عليه لأول مرة حين قدمنى إليه لطفى الخولى، قبيل ندوة عقدت فى «الأهرام»، عام 1983، لكننى لم أقترب منه على المستوى الشخصى إلا عام 1986. أما المناسبة فكانت دعوة وجهتها للسيد الصادق المهدى، لإلقاء محاضرة عن العلاقات المصرية السودانية فى نادى أعضاء هيئة تدريس جامعة القاهرة، حين كنت مسؤولا عن النشاط الثقافى للنادى، وعضو مجلس إدارته المنتخب. ولأن حزب الأمة الذى يتزعمه الصادق المهدى كان على وشك الفوز بالأغلبية البرلمانية فى الانتخابات التشريعية السودانية التى جرت فى ذلك العام، فقد خشى حزب الاتحاد، المنافس، أن يسعى الصادق المهدى إلى استغلال زيارته للقاهرة لتحقيق مكاسب سياسية ترجح كفة حزبه. لذا سارع زعيمه بالاتصال بالرئيس مبارك الذى طلب بدوره من رئيس جامعة القاهرة أن يسعى لتأجيل الزيارة، وهو ما تسبب فى أزمة دبلوماسية مكتومة سعى الدكتور «أسامة» لاحتوائها، قبل أن تنفجر، ومن هنا كانت مبادرته بالاتصال بى.
مازلت أذكر تفاصيل لقائى الأول به فى مكتبه بمبنى وزارة الخارجية القديم، وكأنه حدث بالأمس القريب، فحين دخلت عليه وجدته غاطسا بين أكوام من الملفات، مادا ساقيه فوق منضدة مقابلة، بعد أن تخلص من جواربه الملقاة إلى جوار حذائه. هم واقفا، وسلم علىَّ بحرارة، وحين لاحظ دهشتى واستغرابى انفرجت أساريره عن ابتسامة عريضة، ثم قال بصوته المميز: اجلس هنا يا صديقى، وتخفف من ملابسك مثلى، إن أردت. تسربت إلى أعماقى مشاعر ألفة سمحت للقاء الأول بيننا بأن يمتد لساعتين وأن يثمر.
تكررت لقاءاتى بالدكتور «أسامة»، بعد ذلك، فى مناسبات مختلفة أدرك هو من خلالها مدى حرصى على استقلالى، فاستقرت بيننا علاقة قامت على احترام متبادل، مع التسليم بالحق فى الاختلاف. لم يحل خلافى معه فى الرأى حول بعض القضايا دون إقدامه على توجيه الدعوة لى فى مناسبات متعددة للمشاركة فى لقاءات فكرية كان يحرص على عقدها مع شخصيات سياسية مهمة على هامش زياراتها الرسمية للقاهرة، أذكر من بينها لقاءات جرت مع معمر القذافى، والأمير سعود الفيصل، وجون جارانج وغيرهم كثيرين، لكننى كثيرا ما التقيته مصادفة وهو يسير على قدميه فى الشارع، بلا أى حراسة، أو يتناول عشاءه فى مطعم، أو يشهد عرضا مسرحيا أو يفتتح بنفسه أحد المعارض الفنية، وكان يسعد كثيرا بالمداعبة، ويرد عليها بأحسن منها!
لا أتذكر المناسبة التى التقيته فيها للمرة الأخيرة، دون أن أدرى، لكن من المؤكد أنها كانت منذ سنوات، ربما فى حفل غداء أقامه أحمد أبوالغيط، وزير الخارجية الأسبق، على شرف السفير رفاعة الطهطاوى بمناسبة بلوغه سن الإحالة إلى المعاش. تبادلنا الحديث لدقائق أمام المصعد، عند المغادرة. بدا لى وقتها محبطا بعض الشىء. رجوته أن يهتم بكتابة مذكراته الشخصية، وأن يفتح كنز أسراره الدفين والثمين لتستفيد منه أجيال المستقبل، لم أشعر بحماسه للفكرة، ولا أعرف ما إذا كان قد وجد لديه الوقت أو الرغبة للقيام بهذه المهمة، وأتمنى أن يكون قد فعل.
كان أسامة الباز دبلوماسياً رفيع المستوى، ومثقفاً واعياً، وإنساناً محباً للحياة، لكنه قبل ذلك وبعده كان وطنياً عاشقاً لتراب مصر. تغمده الله برحمة واسعة، وعزائى لأسرته الصغيرة ولوطنه الكبير.