حسن نافعة
أعلنت إثيوبيا أمس الأول أنها بدأت فى تحويل مجرى النيل الأزرق، وتلك خطوة حاسمة تعنى أن سد «النهضة»، أو «الألفية»، لم يعد مجرد مشروع قيد الدراسة، وإنما دخل مرحلة التنفيذ الفعلى وبدأ يتحول إلى واقع ملموس على الأرض. ولا جدال فى أن هذه الخطوة، بصرف النظر عن المهانة التى اقترنت بتوقيتها وملابسات إعلانها، تعد فى حد ذاتها انتهاكاً واضحاً وفاضحاً للقانون الدولى. فنهر النيل نهر دولى، تقع دول عدة على ضفافه، وتشترك فى حوضه، وتتقاسم مياهه وفقاً لمعاهدات دولية يفترض أن تكون ملزمة للجميع، لذا لا تستطيع أى من هذه الدول، خاصة دول المنبع، أن تدعى لنفسها سيادة مطلقة على مجرى النهر، تمارسها منفردة أو مجتمعة، وإنما بمقدورها فقط أن تمارس سيادة نسبية على الجزء الواقع فى أراضيها بما لا يضر بحقوق أو بحصص دول المصب فى مياه هذا النهر. وتأسيساً على هذا الالتزام بالقانون الدولى تعين على إثيوبيا ألا تقدم على خطوة كهذه إلا بعد اتفاق مسبق مع مصر والسودان، يضمن لهما حقوقهما ويؤكد التزامها بهذه الحقوق، وهو ما لم يحدث.
منذ سنوات ونحن نسمع عن مشروعات إثيوبية لإقامة سدود عديدة على النيل الأزرق بهدف توليد الكهرباء، وهو حق تنموى لإثيوبيا لا يمكن لأحد إنكاره، شريطة ألا يمثل اعتداء على حقوق الآخرين. ولأن العلاقات المصرية الإثيوبية لم تكن على ما يرام فى السنوات الأخيرة من حكم مبارك، خاصة منذ محاولة اغتياله فى أديس أبابا عام 1996، فقد بدا التلويح بقرب الشروع فى بناء هذا السد، وكأنه محاولة للابتزاز تظهر بين الفينة والفينة، لكنها سرعان ما تختفى وكأنها مجرد بالون اختبار، غير أن الجدل الذى أثاره التوقيع على اتفاقية عنتيبى، التى اعترضت عليها مصر والسودان، دقّ ناقوس خطر كانت أصداؤه لاتزال تسمع فى مصر عند اندلاع ثورتها الكبرى. لذا لم يكن غريباً أن تنشط الدبلوماسية الشعبية، وأن تتحرك على الفور فى اتجاه دول الحوض، حيث قام وفد شعبى كبير بزيارة أوغندا ثم إثيوبيا. ولأن تشكيله عكس روح ثورة كان العالم لايزال مفتوناً بها، فقد قوبل هذا الوفد بحفاوة كبيرة فى البلدين. وقتها تصورنا أن مصر الثورة فى طريقها لاستعادة دورها الإقليمى المفقود، وأن الأزمة فى طريقها إلى الحل.
كنت قد وجهت فى هذا المكان، وتحديدا بتاريخ 6/5/2011، تحية حارة لوفد الدبلوماسية الشعبية عقب عودته من إثيوبيا محملاً بإنجازين كبيرين، الأول: وعد من ميليس زيناوى نفسه بتأجيل التصديق على اتفاقية عنتيبى إلى ما بعد انتخاب برلمان ورئيس جديدين لمصر، وإتاحة وقت كافٍ لدراسة الاتفاقية، وبحث إمكانية توقيع مصر عليها بعد الاطمئنان إلى أن سد الألفية لن يلحق أى ضرر بحقوقها. والثانى: السماح لفريق من الخبراء، يتم الاتفاق على تشكيله لاحقا بين الطرفين، بفحص مشروع سد النهضة من كل جوانبه وإبداء الاستعداد لإدخال أى تعديلات من شأنها زيادة اطمئنان الجانب المصرى إلى أنه يستهدف تحقيق مصلحة مشتركة وليس إلحاق الأذى بأحد.
كان يفترض، نظراً لارتباط موضوع السد الإثيوبى ارتباطاً مباشراً بأمن مصر الوطنى، أن تقوم السلطة المسؤولة عن إدارة المرحلة الانتقالية بالبناء على ما أنجزته الدبلوماسية الشعبية، وأن يتضاعف اهتمام مصر بهذه القضية عقب انتخاب رئيس جديد للجمهورية. غير أن ما حدث كان العكس تماما، فقد اعتبر المجلس العسكرى أنه يدير ولا يحكم، وبالتالى عليه أن يترك كل الملفات على حالها، إلى أن يسلمها إلى رئيس الجمهورية المنتخب، ثم جاء رئيس الجمهورية المنتخب وانشغل بالتمكين لجماعته فى السلطة بأكثر من انشغاله بقضايا الأمن الوطنى، وفى الوقت نفسه، انشغلت النخبة بمقاومة مشروع التمكين بأكثر من انشغالها ببناء تحالف وطنى قادر على التصدى لأطماع الخارج. وكانت النتيجة: انطفاء وهج الثورة وظهور حالة من الاستقطاب السياسى سمحت لأعداء الثورة فى الداخل ولحلفائهم فى الخارج بالانقضاض عليها وإجهاضها.
قيام إثيوييا بالإعلان عن قرارها المنفرد بتحويل مجرى النيل الأزرق بعد أقل من 12 ساعة من مغادرة رئيس الدولة لإثيوبيا واجتماعه برئيس وزرائها، وقبل نشر تقرير اللجنة الثلاثية، ليس له سوى معنى واحد، وهو أن مصر غير المتصالحة مع نفسها بعد الثوة أصبحت أقل مكانةً وهيبةً مما كانت عليه قبل الثورة. لو كانت لدى مصر قيادة سياسية قادرة على لم شمل الوطن وتغليب المصلحة الوطنية العليا على المصالح الحزبية الضيقة لما جرؤت دولة مثل إثيوبيا على القيام بخطوة كهذه تشكل انتهاكاً ليس فقط للقانون الدولى، ولكن أيضا لما سبق أن وعدت به وفد الدبلوماسية الشعبية.
كانت إثيوبيا تمضى قدماً فى خططها الرامية لإقامة سدها العالى، أما فى مصر فكنا جميعاً نلهو ونعبث، وكان بعضنا مشغولاً بمعركة «اللحية» فى وزارة الداخلية أكثر من انشغاله بتأمين مياه نهر النيل. فلماذا نستغرب ما حدث؟!
نقلا عن جريدة الشرق الاوسط