حسن نافعة
ما إن نطق رئيس محكمة النقض بقبول الطعون المقدمة إليها فى «محاكمة القرن» حتى توالت ردود أفعال لم تخل من تناقض. فأنصار الرئيس المخلوع عبروا عن فرحتهم بإعادة المحاكمة، اعتقاداً منهم بأن فرصة جديدة لاحت لتبرئته أو لتخفيف الحكم الصادر ضده بالسجن المؤبد. أما أعداؤه، خاصة أهالى الشهداء والجرحى، فقد عبروا فى الوقت عن نفسه فرحتهم، اعتقاداً منهم أن إعادة المحاكمة تتيح فرصة جديدة لإظهار الحقيقة كاملة وإنزال القصاص العادل بكل من يستحق. ومن المعروف أن محكمة جنايات القاهرة كانت قد اكتفت بمعاقبة مبارك ووزير داخليته بالسجن المؤبد، لمسؤوليتهما عن قتل المتظاهرين فى ثورة 25 يناير، لكنها برأت ستة من قيادات الشرطة فى القضية نفسها، وأسقطت اتهامات بالفساد كانت موجهة إلى مبارك وصديقه حسين سالم ونجليه علاء وجمال.
وبدون الدخول فى تفاصيل قانونية دقيقة لما يعنيه حكم محكمة النقض بالضبط ولما قد يترتب عليه من آثار، أود أن أعبر بهذه المناسبة عن عدم حماستى لإعادة محاكمة مبارك، لأننى أخشى أن تكون بداية، مقصودة أو غير مقصودة، للدخول فى متاهة جديدة تستهدف إلهاء الرأى العام عن الانشغال بقضايا أكثر حيوية تواجه البلاد فى المرحلة الراهنة. وكما كانت محاكمة مبارك الأولى مهزلة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، وهو ما سبق لى أن عبرت عنه من قبل فى أكثر من مناسبة أثناء المحاكمة نفسها، يخشى أن تشكل إعادة محاكمته مهزلة كبرى وأكثر ضرراً.
كلنا يذكر أن مبارك لم ينتقل - كما كان ينبغى - من قصره المحاصر بالثوار إلى السجن مباشرة، بصفته طاغية فاسدا ثار عليه شعبه، وإنما انتقل من قصر رسمى فى القاهرة إلى قصر شبه رسمى فى منتجع شرم الشيخ، وأقام هناك لأسابيع كأنه ذاهب فى إجازة للترفيه. وحين صدر قرار النائب العام بحبسه على ذمة التحقيق فى اتهامات بالفساد وبقتل الثوار، كان قد نقل بالفعل إلى جناح ملكى فى أفخم مستشفيات مصر، بدعوى تدهور حالته الصحية، وكان يجرى إحضاره إلى حيث يحاكم منقولاً على متن طائرة هليكوبتر ويدخل قفص الاتهام وهو مسجى على سرير طبى مجهز. وكلنا يذكر، ثانياً، أن السيدة سوزان، زوجة الرئيس وأهم رموز فساد ذلك العهد، ظلت حتى وقتنا هذا حرة طليقة تتابع المحاكمة وتتحرك دون قيود. وكلنا يذكر، ثالثا، أن مدير الديوان، زكريا عزمى، ظل هو الآخر حراً طليقاً لأكثر من شهرين، بل كان يذهب إلى مكتبه يومياً لتدمير أى مستندات تدين رئيسه الذى سقط أو نظامه الذى لم يسقط بعد. وكلنا يذكر، أخيراً، أن محاولات جرت لاجتياح مقار مباحث أمن الدولة لإفساد أدلة كل إدانة، لذا فعندما بدأت «محاكمة القرن»، كان واضحا أن مبارك يحاكم مبارك بقوانين أصدرتها مجالسه التشريعية المزيفة، وبتحريات جمعتها أجهزته الأمنية المتوحشة، وأمام سلطة قضائية جرى تخريب وإفساد العديد من مؤسساتها ورموزها.
فى سياق كهذا بدأت تتكشف تباعا حقيقة راحت تتأكد تدريجياً وهى أن المجلس العسكرى المسؤول عن إدارة المرحلة الانتقالية لم يكن راغباً فى محاكمة مبارك، باعتباره أحد رموز العسكرية المصرية، أو فى محاكمة نظامه الذى كان جزءاً لا يتجزأ منه، لذا فإن المحاكمة الأولى لم تكن فى الواقع سوى وسيلة لامتصاص غضب شعبى عارم. صحيح أن الحكم قضى بحبس كل من مبارك والعادلى، لمسؤوليتهما السلبية عن عدم التدخل لحماية المتظاهرين، ومن ثم فقد عول البعض على إمكانية صدور حكم بالبراءة لاحقاً عند إعادة المحاكمة، غير أن الأخطر من ذلك أن تهم الفساد فى قضية بيع الغاز لم تثبت فى حق مبارك ونجليه، ومن ثم صدر حكم ببراءتهم كان صادماً للجميع.
لقد مرت مياه كثيرة فى نهر السياسة المصرية منذ سقوط رأس النظام القديم، فقد هربت أموال ضخمة إلى الخارج خلال الأشهر التى أعقبت سقوط رأس النظام مباشرة، وسقط كثيرون قتلى وجرحى بالمئات فى عهد المجلس العسكرى وفى عهد مرسى على السواء، لذا فإن إعادة «محاكمة القرن» تثير قضايا معقدة. ولأن الشعب المصرى ليس له قضية شخصية ضد أحد ويحرص فقط على تنظيف البلاد، كى تنهض من جديد، يجب أن تمتد المحاكمة فى طبعتها الجديدة لتشمل كل متهم بارتكاب جرائم فساد أو نهب ثروات البلاد أو تسبب فى انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، سواء ارتكبت هذه الجرائم قبل 25 يناير 2011 أو بعدها. ولأن كل شىء ظل على حاله منذ الثورة وحتى الآن، فمن الطبيعى أن يعيدنا هذا الفهم المحدد لطبيعة المحاكمة المطلوبة إلى نقطة الصفر من جديد.
فهل يمكنك، عزيزى القارئ، أن تقدم حلا لفزورة: من سيحاكم مَن، وكيف؟
نقلاً عن جريدة "المصري اليوم"