حسن نافعة
شاع استخدام مصطلح «التمويل الأجنبى» بكثافة فى بعض وسائل الإعلام المصرية، فى الآونة الأخيرة، ليس بهدف تبصير المواطن بمخاطره أو أضراره وإنما لأغراض تتعلق بالابتزاز وتشويه السمعة. فعندما يقال إن هذه حركات أو شخصيات سياسية بعينها تتلقى «تمويلاً أجنبياً» يصبح واضحاً أن المقصود هو اتهامها بالعمالة لحساب الدول أو القوى التى تتلقى منها تمويلاً.
قبل أى حديث عن الملابسات التى أدت إلى عودة العزف على نغمة «التمويل الأجنبى» هذه الأيام، واستخدامه كأداة للابتزاز السياسى من جديد، يحسن بنا أن نتعرف أولاً على المعنى الدقيق لهذا المصطلح. فالمقصود بالتمويل «الأجنبى» كل أموال تتدفق على بلد معين من الخارج، أياً كان مصدر هذه الأموال أو نوعها أو الجهات المستفيدة منها. ومن المعروف أن مصادر «التمويل الأجنبى» كثيرة، فهى إما أن تكون رسمية: إذا كانت مقدمة من دول أو من منظمات دولية حكومية أو من شركات ومؤسسات عامة، أو غير رسمية: إذا كانت مقدمة من منظمات دولية غير حكومية، أو من منظمات أهلية أو من شركات ومؤسسات خاصة. وقد تكون هذه الأموال على هيئة قروض أو منح لا ترد، أو استثمارات خاصة أو عامة فى قطاعات إنتاجية أو خدمية متنوعة. أما الجهات المستفيدة فقد تكون أجهزة حكومية، أو مؤسسات وشركات عامة أو خاصة، أو منظمات أهلية «مؤسسات المجتمع المدنى». وعادة ما تلجأ الدول والمجتمعات لهذا النوع من التمويل «الأجنبى» إما لأن مواردها المحلية لا تكفى لتنمية ذاتية ومستقلة، وإما لأن النظام الدولى أصبح بطبيعته نظاماً «معولماً» سقطت فيه الحدود بين ما هو «محلى» وما هو «أجنبى».
يتضح مما تقدم أن المشكلة الأساسية لا تتعلق بمصدر التمويل، وهل هو «محلى» أم «أجنبى»، بقدر ما تتعلق بطريقة إنفاقه وما إذا كانت تنطوى على مظاهر فساد، أو تتعلق بأنشطة تلحق الضرر بمصالح الوطن العليا وبأمنه القومى. فحين يقوم نظام سياسى على نخبة فاسدة ومستبدة، مثلما كان عليه الحال فى مصر قبل ثورة يناير، فمن الطبيعى أن توظف هذه النخبة كل ما تستطيع الحصول عليه من تمويل محلى أو أجنبى لإشباع مصالحها الخاصة، حتى ولو أدى ذلك إلى إلحاق أفدح الأضرار بمصالح الوطن أو بأمنه القومى. وقد رأينا كيف وصل فساد نظام مبارك واستبداده إلى الدرجة التى جعلته لا يتردد فى الإقدام على بيع مورد الغاز الطبيعى النادر إلى إسرائيل بأبخس الأثمان، مع الإقدام فى الوقت نفسه على تسول المعونات من الدول الأجنبية لإنفاقها على أجهزة الأمن ولإغداق العطايا والرشا على نخبة حاكمة تم شراؤها فى مقابل ضمان ولائها.
الغريب أن هذا النظام العميل، الذى ثارت مصر كلها ضده واستطاعت إسقاط رأسه دون أن تتمكن حتى الآن من اقتلاع جذوره، لم يتردد فى اتهام معارضيه بالعمالة وبتلقى أموال أجنبية. أما الأغرب فأن يسير المجلس العسكرى الذى تسلم إدارة المرحلة الانتقالية على نهج سلفه، وأن يذهب إلى حد تدبير مكيدة لعدد من منظمات المجتمع المدنى انتهت بفضيحة أساءت إلى سمعته وإلى سمعة بعض رجال القضاء المتعاونين معه، ولم يتردد فى توظيف بعض وسائل الإعلام لتشويه سمعة من يجرؤون على انتقاد سياساته. لكن الأكثر غرابة هو أن يسير النظام الحالى بقيادة الدكتور مرسى، الذى يدعى أنه يحكم باسم الثورة، على نفس الدرب الذى سار عليه كل من النظام القديم والمجلس العسكرى.
فقبل ما يقرب من عام قامت «بوابة الوفد الإلكترونية» بنشر تحقيق صحفى تحت عنوان: «الوفد تنشر أسماء الحاصلين على تمويل من السفارة الأمريكية»، تصدرته صورة كبيرة تضم مجموعة من الشخصيات العامة، كان من بينها شخصى الضعيف، وفى خلفيتها أكوام من الدولارات المتناثرة، وتحتها خبر يقول: «كشفت وثائق سرية سربها موقع (ويكيليكس) الشهير عن قيام السفارة الأمريكية بتمويل بعض النشطاء المصريين سراً خلال السنوات الأخيرة، كما كشفت برقيات دبلوماسية مسربة عن المزيد من أسماء شخصيات عامة وحقوقية مصرية ممن ترددوا على السفارة الأمريكية فى فترة حكم الرئيس المصرى السابق حسنى مبارك. ووفق العديد من البرقيات الدبلوماسية التى سربها الموقع الشهير، فقد تلقى عدد من المنظمات الأهلية والحقوقية دعما مباشرا من هيئة المعونة الأمريكية، كما تبين حرص السفارة الأمريكية على عقد لقاءات، بعضها غير معلن، مع شخصيات عامة مصرية، ونشطاء آخرين ساعين للتمويل، وآخرين بغرض الاطلاع على الأوضاع الداخلية».
فى 5/1/2012، أى منذ حوالى عام بالضبط، نشرت فى هذا المكان مقالا بعنوان «بلاغ إلى النائب العام» جاء فيه: «1- لم يحدث قط أن التقيت (سراً) مع أى شخصية، أمريكية كانت أم من جنسيات أخرى، وجميع لقاءاتى تتم فى العلن، إما فى مكتبى بالجامعة أو فى أماكن عامة. 2- لم يحدث قط أن تلقيت أموالاً أو سعيت لتلقى أموال، لا من السفارة الأمريكية ولا من من أى جهة أخرى، ولم أقم بتأسيس أو أشارك فى تأسيس أى جمعية أهلية تتلقى أموالا من الخارج لأى غرض كان. وأتعهد، فى حالة ثبوت التهمة، بتقديم استقالتى من الجامعة، والامتناع طواعية عن ممارسة أى نشاط عام، والقبول عن رضا بأى عقوبة ينص عليها القانون فى مثل تلك الجرائم. 3- لم يرد فى الوثائق التى ورد ذكرها أى إشارة إلى اسمى مقرونا بلقاء (سرى) بينى وبين أحد، أو بأننى تلقيت أموالاً من أى جهة أجنبية لأى غرض». وأنهيت بلاغى قائلاً: «يتضح مما سبق أن ما ذكرته عنى صحيفة (الوفد) كاذب ومختلق من أساسه، وأنه استهدف التشهير بى والنيل من سمعتى عن عمد وسوء نية، وأنه ألحق بى أضراراً مادية ومعنوية هائلة». واختتمته بمطالبة النائب العام بالتحقيق معى فيما هو منسوب إلىّ لتبين وجه الحقيقة من الضلال.
لم أنتظر حتى يستدعينى النائب العام للتحقيق فى البلاغ الذى نشرته، حتى لا يقال إننى أقدم بلاغات إعلامية، لكننى ذهبت إليه بنفسى بصحبة محام من مكتب الدكتور يحيى الجمل. ولأنه لم يكن فى وسعى أن أفعل أكثر من ذلك لإثبات براءتى من اتهام كاذب استهدف التشهير بى لأسباب سياسية دنيئة، فقد اعتبرت الموضوع منتهياً عند هذا الحد. غير أنى فوجئت منذ أيام بعدد هائل من المواقع الإلكترونية، المحسوبة على جماعة الإخوان وبعض الفصائل الأخرى لتيار الإسلام السياسى، تعيد نشر نفس الخبر كأنه حدث اليوم، ودون أى مبرر، أو تظهر وثائق جديدة من وثائق «ويكيليكس». وأثار هذا النشر صديقاً ورد اسمه فى ذات التحقيق الملفق، وفوجئت به يقول لى: يبدو أن مقالك الذى نشر تحت عنوان «هل يجوز قران بعد اغتصاب» قد أصابهم بالجنون. وعندما شرحت له أننى لم أعد أبالى بردود أفعالهم، حاول إقناعى بأنهم «قوم يخافون ولا يختشون». لم أعترض على هذا التشخيص، واتفقنا على أن الحل الأفضل ربما يكمن فى رفع دعوى قضائية وسنطلب من المحكمة تعيين خبير محاسبى لفحص ليس فقط كل ممتلكاتنا ومواردنا ونفقاتنا، ولكن أيضا كل ممتلكات الجماعة والأحزاب السلفية ومواردها ونفقاتها، حتى يتبين للرأى العام من منا يحصل على «تمويل أجنبى» ومن منا يلحق الضرر بمصالح الوطن.
حقاً إذا لم تستح فافعل ما شئت.
نقلاً عن جريدة "المصري اليوم"