حسن نافعة
كنت واحداً ممن عارضوا النظام السابق وهو فى عنفوان جبروته وحرّضوا الشعب للانتفاض ضده وإسقاطه، ومع ذلك لم أتصور أبداً أن الله سيمد فى عمرى إلى أن أشهد فى حياتى ثورة مصرية بهذه الضخامة وبهذه الروعة معاً.
كانت ثورة يناير المصرية ضخمة حقاً، لأن الشعب كله شارك فيها فعلاً لا مجازاً. فما أن نجح الشباب فى تفجير انتفاضة كبرى يوم 25 يناير حتى التفت الجماهير حوله وراحت تحتشد فى الميادين بالملايين وتنزل إلى الشوارع مطالبة بإسقاط النظام، فتحولت انتفاضة الشباب إلى ثورة شعبية كبرى. وكانت هذه الثورة رائعة وجميلة حقاً لأن الجماهير التى احتشدت بالملايين فى الميادين، مطالبة بإسقاط النظام، وقفت معاً كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً: المسلم إلى جوار القبطى، والغنى إلى جوار الفقير، والملتحى إلى جوار الحليق، والسافرة إلى جوار المحجبة.
ولم يكن لهذا الاحتشاد الجماهيرى الجامع بين كل المتناقضات سوى معنى واحد وهو أن شعب مصر يرغب فى إقامة نظام سياسى واجتماعى بديل يتسع للجميع ويشارك فيه الكل على قدم المساواة، نظام يعترف بالتنوع، ويحمى الحق فى الاختلاف والاعتقاد، ويرفض التمييز بين البشر على أساس الدين أو العرق أو الجنس، ويدرك أن الوحدة فى إطار التنوع هى أقصر الطرق وأسلمها لتحقيق التنمية وخلق الظروف التى تسمح بالاستفادة القصوى من كل الطاقات والمواهب التى يجود بها الوطن الواحد ويمنحها لأبنائه فى الداخل والخارج.
غير أنه ما أن سقط رأس النظام القديم حتى بدأت الرياح تهب بما لا تشتهى سفن الثورة أو تساعد على تحقيق أهدافها كاملة. فقد تولى المجلس الأعلى للقوات المسلحة مسؤولية إدارة شؤون الدولة والمجتمع خلال مرحلة انتقالية، راحت تطول بلا مبرر مقنع، وارتكبت خلالها أخطاء كبيرة وكثيرة من جانب جميع الأطراف. بعض هذه الأخطاء وقع بحسن نية، تسببت فيه أمور تتعلق بنقص الخبرة وعدم وضوح الرؤية، وبعضها الآخر بسوء نية، تسببت فيه أمور تتعلق بمصالح حزبية أو فئوية أو بصراعات شخصية. فالشباب الذى فجر الثورة لم يتمكن من تشكيل جبهة أو قيادة موحدة لحماية مسارها من الانحراف.
وحين أمسك المجلس الأعلى للقوات المسلحة بزمام السلطة تصور أن التفاهم مع جماعة الإخوان، الأكثر تنظيما وعددا وعدة، يمكن أن يساعد على تحقيق استقرار سياسى يقوم على حلول وسط تسمح له باقتسام السلطة مستقبلاً مع الجماعة، بينما رأت الجماعة أن الثورة تتيح لها فرصة تاريخية للوصول إلى السلطة عبر صناديق الانتخاب، وأن عليها أن تمسك بها كى تتمكن من وضع مشروعها السياسى موضع التنفيذ. ولأن نجاحها فى الانتخابات البرلمانية عمّق هذا الإحساس لديها، فقد راحت تتخلى تدريجيا عن شعارها القديم، وبدأت ترجّح فكرة المغالبة على المشاركة، وقررت خوض الانتخابات الرئاسية بعد أن كانت قد ألزمت نفسها بعدم التقدم بمرشح لها.
كان شعب مصر، رغم ذلك كله، على استعداد لأن يعطى تيار الإسلام السياسى، بصفة عامة، وجماعة الإخوان المسلمين، بصفة خاصة، الفرصة كاملة أملاً فى أن تقيم نموذجاً جديداً للحكم يحقق العدل ويقضى على الفساد. غير أن الأداء التشريعى للبرلمان، بأغلبيته الإسلامية الكاسحة، والأداء الرئاسى للدكتور محمد مرسى، ممثل جماعة الإخوان فى السلطة التنفيذية، كان مخيبا للآمال. ولأن الشعب لم يلمس أى تحسن ملحوظ فى مستوى معيشته أو فى عملية بناء مؤسسات الدولة، فقد كان من الطبيعى أن ينتابه شعور متزايد بالقلق، وأن يتحول القلق إلى غضب عندما صدر «إعلان دستورى» يركز السلطات فى يد شخص واحد، يبدو كأنه أسلوب جديد لإعادة نظام استنساخ النظام الفرعونى القديم، فطفح الكيل.
رفضت الإعلان «الدستورى» وحذرت من الإفراط فى الثقة بالنفس والتقليل من شأن الآخرين، لكننى لم أتوقع أن ينتفض الشعب المصرى على محاولة إعادة نظام الاستبداد بهذه السرعة. ومع ذلك فقد استعدت ثقتى فى هذا الشعب العظيم عندما عدت إلى الميدان مساء الثلاثاء الماضى، وأدركت أن الله يحب هذا الوطن فعلا ويريد له الخير. وكما أن لمصر رباً يحميها فللثورة أيضاً شعب يحميها بإذن الله
نقلاً عن "المصري اليوم".