حسن نافعة
فاز أوباما بفترة ولاية ثانية تمكنه من قيادة الولايات المتحدة، أقوى دولة عرفها التاريخ حتى الآن، لسنوات أربع جديدة. ولأن شكوكا قوية ظلت تحوم حول قدرة أوباما على تحقيق مثل هذا الإنجاز حتى اللحظة الأخيرة، فقد قوبل فوزه فى انتخابات الرئاسة الأمريكية لعام 2012 بارتياح كبير فى معظم أنحاء العالم، وعلى المستويين الشعبى والرسمى، خاصة فى أوروبا والصين وروسيا الاتحادية وفى العالم العربى أيضاً.
لا يعود الشعور العام بهذا الارتياح إلى إيمان حقيقى بقدرات أوباما الزعامية أو الاستثنائية، لأنه لم ينجز خلال ولايته الأولى ما كان متوقعاً أو مأمولاً منه، وأصاب الكثيرين بإحباط شديد، بقدر ما يعود إلى غياب مرشح آخر أفضل منه. بل ليس من المستبعد أن يكون الخوف من فوز المرشح الآخر المنافس له فى انتخابات الرئاسة الأمريكية لهذا العام قد لعب دوراً مهماً فى إعادة انتخاب أوباما لفترة ولاية ثانية. ولأن المرشح الجمهورى فى الانتخابات الأمريكية لهذا العام لم يكن يقل تطرفا وخطورة عن جورج دبليو بوش الابن، فقد خشى كثيرون داخل وخارج الولايات المتحدة من أن يؤدى وصول رومنى للبيت الأبيض إلى الدخول فى مغامرات عسكرية جديدة لن تقتصر نتائجها الكارثية المتوقعة على الولايات المتحدة وحدها، وإنما قد تمتد إلى النظام العالمى ككل، وربما تعجل بانهياره.
لقد اعتاد العالم العربى أن يظهر فى وسائل إعلامه، عقب كل فوز جديد لأى رئيس أمريكى بولاية ثانية، سيل من التحليلات يبشر بقرب التوصل إلى تسوية نهائية ودائمة للصراع العربى - الإسرائيلى. وعادة ما تبنى هذه التحليلات على مقولة واحدة دائمة لا تتغير، وهى أن الرئيس الأمريكى يصبح فى ولايته الثانية والأخيرة أقل احتياجاً إلى مساندة ودعم اللوبى الصهيونى، وبالتالى أكثر قدرة على ممارسة سياسة أمريكية متحررة من نفوذه تكون أقل انحيازاً لإسرائيل.
غير أننى أظن أن الوقت قد حان كى يعيد العالم العربى النظر فى مقولة ثبت تاريخيا عدم صحتها، ولم يكن تجذرها فى الذهن العربى على هذا النحو سوى تعبير عن مرض أصاب العقل العربى وبنى على وهم كبير، ومن ثم آن أوان استئصالهما معا، ونهائياً. ويكفى أن نقارن بين موقفى رئيسين أمريكيين، هما دوايت أيزنهاور عام 1956 وبيل كلينتون عام 2000، لندرك هذه الحقيقة على أوضح ما يكون.
ففى 29 أكتوبر عام 1956 قامت إسرائيل بشن هجوم عسكرى خاطف على مصر، تبين فيما بعد أنه حلقة أولى فى مؤامرة فرنسية بريطانية إسرائيلية مشتركة وضعت من وراء ظهر الولايات المتحدة، واستهدفت غزو مصر وإسقاط عبدالناصر، رداً على قيامه بتأميم شركة قناة السويس. المثير للتأمل هنا أن الغزو العسكرى الإسرائيلى لسيناء بدأ قبل أسبوع واحد من الموعد المقرر لإجراء انتخابات رئاسية كان الرئيس الأمريكى دوايت أيزنهاور مرشحاً فيها لولاية ثانية، ومع ذلك لم يتردد هذا الرئيس فى اتخاذ موقف قوى ليس فقط ضد حرب تشارك فيها إسرائيل وقعت فى ذروة الحملة الانتخابية لكن أيضا لحمل إسرائيل فيما بعد على الانسحاب من سيناء بعد فترة تلكؤ طويلة. وكان هذا هو الموقف النقيض تماماً للموقف الذى اتخذه كلينتون بعد ذلك بحوالى نصف قرن.
ففى يوليو عام 2000 قرر بيل كلينتون فى وقت كان يتهيأ فيه لمغادرة البيت الأبيض فى نهاية فترة ولاية ثانية، دعوة كل من ياسر عرفات، رئيس السلطة الفلسطينية، وإيهود باراك، رئيس وزراء إسرائيل، إلى مفاوضات مكثفة فى كامب ديفيد، للتوصل إلى تسوية نهائية للصراع الفلسطينى الإسرائيلى. ولأن وهم «الولاية الثانية» كان ما زال مسيطراً، فقد كان العرب على قناعة تامة بأن الرئيس بيل كلينتون لن يترك كامب ديفيد إلا بعد إجبار إسرائيل على التوقيع على اتفاق يستجيب للحد الأدنى من المطالب الفلسطينية. غير أنه سرعان ما تبين أن ما حدث كان العكس تماماً، وأن كلينتون قام بممارسة أبشع الضغوط على عرفات، لإجباره على القبول بتسوية بالشروط الإسرائيلية، وبعد فشله خرج من المؤتمر ليدلى بتصريحات توجه اللوم لعرفات وتكيل المديح لباراك الذى «قدم تنازلات مؤلمة»!. وكان هذا التطور بداية لمأساة أودت فى النهاية بحياة ياسر عرفات، الرجل الذى رفض التوقيع على صك الاستسلام الإسرائيلى بمباركة أمريكية.
كان يفترض، وفقا لنظرية «الولاية الثانية»، أن يكون أيزنهاور أسيرا للوبى الصهيونى، فيغمض الطرف عن عدوان إسرائيل على مصر، وهو ما لم يحدث، وأن يكون كلينتون متحرراً من هذا الأسر، فيضغط على إسرائيل لتقبل بتسوية معقولة مع الفلسطينيين، وهو ما لم يحدث أيضا. لذا علينا ألا نتوقع أبداً أن يقوم أوباما باتخاذ أى خطوة فى اتجاه الضغط على إسرائيل، لمجرد أنه فاز بولاية ثانية وأصبح متحرراً نسبياً من سطوة اللوبى الصهيونى.
كان بوسع الرئيس أيزنهاور أن يضغط على إسرائيل، حتى فى ذروة الانتخابات الأمريكية، نظرا لتوافر عوامل:
1- لأن إسرائيل تواطأت مع حلفائه من وراء ظهره، وأقدمت على لعبة خطرة تمس المصالح الاستراتيجية العليا للولايات المتحدة، خصوصاً بعد تهديد الاتحاد السوفييتى باستخدام السلاح النووى ضد لندن وباريس.
2- لأن حركة القومية العربية بقيادة عبدالناصر بدت فتية فى ذلك الوقت وقادرة على التأثير على المصالح الاستراتيجية الأمريكية بأكثر مما كانت تستطيعه إسرائيل.
3- لأن الولايات المتحدة كانت تتحين الفرص لوراثة مصالح الاستعمار التقليدى فى منطقة الشرق الأوسط.
والسؤال الآن: كيف سيتعامل أوباما فى ولايته الثانية مع قضايا المنطقة بصفة عامة، ومع الصراع العربى الإسرائيلى، بصفة خاصة.
من الواضح تماماً أن قضايا المنطقة لن تحتل موقعاً متقدماً على جدول أولويات أوباما فى المرحلة القادمة إلا فى حدود ما تؤثر به على الداخل الأمريكى، من ناحية، وعلى التوازنات الدولية، من ناحية أخرى. ولدى أوباما، سواء فى الداخل الأمريكى أو على الصعيد الدولى، قضايا عديدة من شأنها أن تبعده كثيرا عن الاهتمام بشؤون المنطقة، وبالذات عن الصراع العربى الإسرائيلى، ففى الداخل الأمريكى بدأت أزمة اقتصادية كبيرة تطل برأسها وتثير مخاوف جادة من احتمال عودة الكساد من جديد.
أما على الصعيد الخارجى فقد أصبح أوباما أكثر اقتناعاً من أى وقت مضى بأن الولايات المتحدة أصبحت أضعف من أن تقود النظام الدولى منفردة، وأن الحاجة باتت ماسة لصياغة نظام دولى جديد أكثر ديمقراطية وتعددية. ولأن أوروبا تواجه أزمة مالية حادة بدورها، فضلاً عن ارتباط الأزمة السورية ارتباطاً عضوياً بأزمة الملف النووى الإيرانى وبموضوع الأمن فى منطقة الخليج، فمن المتوقع أن تحتل العلاقات الأطلنطية، من ناحية، والأزمة السورية، من ناحية أخرى، موقعاً متقدماً على جدول أعمال أوباما فى المرحلة القادمة.
من المتوقع أن تتراجع احتمالات الحل العسكرى لأزمة الملف النووى الإيرانى، وبالتالى أن تتزايد الفجوة بين الموقفين الأمريكى والإسرائيلى، غير أن الضغط الأمريكى على إيران سيتواصل بوسائل أخرى. لذا فالأرجح ألا يتعامل أوباما مع الصراع العربى الإسرائيلى كموضوع مستقل، وإنما فقط من زاوية مدى تأثيره على الطريقة التى سيتعامل بها مع ملف إيران النووى، من ناحية، ومع جهوده الرامية لإصلاح النظام الدولى من منظور المصالح الأمريكية، من ناحية أخرى.
نقلا عن جريدة " المصري اليوم "