حسن نافعة
الحريات الفردية
يثير الباب الثانى من مسودة الدستور، الذى جاء تحت عنوان «الحقوق والحريات والواجبات العامة»، إشكاليات عديدة. ولأنه طويل نسبياً، حيث يحتوى على 52 مادة، يصعب التعليق على كل مواده تفصيلاً فى مثل هذا الحيز الضيق. لذا سأكتفى بانتقاء أمثلة محددة تتعلق بالمواد التى أرى أنها الأكثر إثارة للجدل، وسأخصص مقال اليوم لمناقشة البعد المتعلق بالحقوق والحريات الفردية تاركين البعد الخاص بالحقوق والحريات العامة لمقال الغد إن شاء الله.
هناك ملاحظة عامة تفرض نفسها فى البداية وهى وجود حرص واضح على تضمين الباب الثالث قائمة طويلة بالحقوق والحريات التى يراد للدستور المصرى أن يكفلها كاملة غير منقوصة. غير أنه يلاحظ فى الوقت نفسه أن معظم نصوص هذا الباب أيضا صيغت بطريقة ركيكة، ومن ثم تحتاج إلى إعادة صياغة ليصبح المعنى أكثر دقة ووضوحاً وخالياً من كل ثغرات محتملة. ويصلح نص المادة 36، على سبيل المثال لا الحصر، للاستدلال به فى هذا المقام. يقول النص: «للمنازل حرمة فلا يجوز دخولها ولا تفتيشها ولا مراقبتها إلا فى الأحوال المبينة فى القانون وبأمر من القاضى المختص.. ويجب تنبيه من فى المنازل قبل دخولها وتفتيشها، وذلك كله فى غير حالات الخطر أو الاستغاثة». ويبدو خلل الصياغة هنا ليس فقط واضحاً للعيان وإنما معيبا أيضا، لأنه قد يؤدى - دون قصد من المشرع طبعاً - إلى حالات انتهاك غير مقصود لأصل الحق. فلو أن النص المذكور كان قد استبدل بنص كالتالى: «ويجوز دخول المنازل دون تفتيشها فى حالة وجود خطر يهدد سلامتها أو حياة من فيها وفى حالات الاستغاثة»، أو بأى نص آخر مشابه، لتحقق الهدف المنشود بصورة أفضل وبخسائر محتملة أقل!
وهناك مواد أخرى عديدة تعكس صياغتها، كما وردت فى المسودة، موقفاً سياسياً ورؤية أيديولوجية محددة، من شأنهما إثارة خلافات أكثر حدة. فهناك على سبيل المثال، لا الحصر، نص المادة 39 المتعلقة بحرية العقيدة الذى جاء على النحو التالى: «حرية الاعتقاد مصونة. وتكفل الدولة حرية إقامة دور العبادة للأديان السماوية على النحو الذى ينظمه القانون». إذ يلاحظ هنا أن هذا النص يتحدث عن «حرية الاعتقاد» وليس عن «حرية العقيدة»، والفرق كبير جدا بين التعبيرين، كما يلاحظ أن الحرية المكفولة فى هذا السياق ليست مطلقة وإنما مقصورة على الأديان السماوية وحدها دون غيرها، وهو نص يثير مخاوف وشبهات لا مبرر لها. وهناك مواد أخرى أكثر إثارة للجدل والخلاف، من الناحية الموضوعية، ربما كان أهمها المواد التى تتعلق بالمساواة وعدم التمييز، خاصة بين المرأة والرجل.
فقد جاء نص المادة 68، على سبيل المثال، على النحو التالى: «تلتزم الدولة باتخاذ جميع التدابير التى ترسخ مساواة المرأة مع الرجل فى مجالات الحياة السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية وسائر المجالات الأخرى دون إخلال بأحكام الشريعة الإسلامية..»، وهو نص قد يوحى لمن يقرؤه على الفور بأن الشريعة الإسلامية لا تعترف بالمساواة بين المرأة والرجل، ولا تتعامل مع المرأة باعتبارها إنسانا كامل الأهلية، وهو فهم خاطئ تماما.
الأهم أنه يتناقض بشكل كامل مع نص المادة 30 من نفس المسودة، الذى جاء على النحو التالى: «المواطنون لدى القانون سواء، وهم متساوون فى الحقوق والواجبات العامة، لا تمييز بينهم فى ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة أو الرأى أو الوضع الاجتماعى أو الإعاقة». ولا جدال فى أن عبارة «دون إخلال بأحكام الشريعة الإسلامية» التى وردت فى نص المادة 68 أدخلت المجتمع كله فى متاهات لا أول لها ولا آخر، خصوصا أنها جاءت معطوفة على «مجالات الحياة السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية وسائر المجالات الأخرى».
إذا كان القصد من وراء إدراج هذه العبارة ضمان تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية فى قضايا الميراث والأحوال الشخصية، فهذا تزيُّد لا مبرر له، وذلك لسبب بسيط وهو أن أحكام الشريعة الإسلامية مطبقة بحذافيرها بالفعل فى هذه المجالات، ومنصوص عليها أيضا فى جميع القوانين المعنية، ولا يتهدد تطبيقها فى أى وقت أى نوع من المخاطر. لذا أعتقد، كما يعتقد غيرى كثيرون، أنه كان بوسع تيارات الإسلام السياسى التى أدخلتنا فى تيه هذا الجدل العقيم، خاصة السلفية منها، أن تكتفى بالنص فى الأحكام العامة للدستور على «حظر إصدار تشريعات تتناقض مع أحكام الشريعة الإسلامية» دون الإشارة فى أى مكان من مسودة الدستور إلى «الشريعة» أو «أحكام الشريعة» أو حتى مبادئ الشريعة.
نقلاً عن جريدة "المصري اليوم"