حسن نافعة
2 - مصر فى مخطط التفتيت:
تحتل مصر موقعا مركزيا فى استراتيجية الحركة الصهيونية لتفتيت العالم العربى. فرغم قيام «ينون» بكتابة دراسته بعد حوالى خمس سنوات من زيارة الرئيس السادات للقدس، وأربع سنوات من توقيع مصر على اتفاقيتى كامب ديفيد وثلاث سنوات من دخول معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية حيز التنفيذ، ورغم علمه التام بأن التوقيع على معاهدة سلام منفردة مع إسرائيل كلف مصر تضحيات هائلة وتسبب فى عزلتها عن العالم العربى وفقدانها جزءاً كبيراً من هيبتها الدولية ومن مكانتها بين الأمم، إلا أن ذلك كله لم يشفع لمصر عند الحركة الصهيونية أو يجنبها شر ما كانت تحيكه لها من مخططات. ويبدو واضحا تماما من هذه الدراسة أن صورة مصر لدى الحركة الصهيونية لم تتغير بعد معاهدة السلام عما كانت عليه قبلها.
أدرك ينون أن أى استراتيجية لتفتيت العالم العربى لن تنجح إلا إذا كانت قادرة على إضعاف الدولة التى تضم ثلث سكانه والمرشحة الطبيعية لزعامته، لذا كان من الطبيعى أن يحاول إثبات أن مصر دولة ضعيفة وقابلة للتفكيك وعاجزة بالتالى عن حماية العالم العربى من التفكك والسقوط. ولإثبات نظريته قدم ينون ثلاث أطروحات:
الأولى: تتعلق بطبيعة النظام السياسى المصرى. فقد حاول إثبات أنه نظام عقيم، ومفلس، ويتمتع بدرجة عالية من عدم الكفاءة، وأن البيروقراطية تمكنت من جهاز الدولة فى مصر إلى درجة جعلته يبدو عاجزا تماما عن القيام بأى مبادرة أو تحقيق إنجاز يذكر فى أى مجال. ورغم تسليم «ينون» بأن الجيش المصرى يمثل حالة استثنائية، وأن بمقدوره الإفلات من قبضة البيروقراطية الرهيبة مثلما حدث فى حرب أكتوبر 1973، إلا أنه أصر على أن بقية قطاعات الدولة المصرية أصبحت فى حالة يرثى لها ولم يعد يشغلها سوى المحافظة على بقائها وإعادة إنتاج نفسها.
الثانية: تتعلق بطبيعة النظام الاقتصادى والاجتماعى. فقد ادعى أن مصر دولة غزيرة السكان، شحيحة الموارد، متخلفة علمياً وتكنولوجياً، وتكاد لا تجد ما يسد رمق سكان مازالوا يعيشون بأعداد هائلة على رقعة محدودة من الأرض الزراعية لا تتجاوز سوى نسبة ضئيلة جداً من إجمالى المساحة الكلية للبلاد. صحيح أن المعونة الأمريكية تساعد مصر على التخفف من أعبائها، لكنها معونة ترتبط عضوياً بعملية السلام، وبالتالى فهى مؤقتة بطبيعتها ومن الصعب ضمان استمرار بقائها طويلا. على صعيد آخر، اعتبر أن النظام الاجتماعى فى مصر يقوم على أسس طبقية وينطوى على مظاهر تمييز عديدة تمكن شريحة محدودة جدا من السكان من مضاعفة ثرواتها بسرعة والاستحواذ على النسبة الأكبر من إجمالى الدخل القومى فى الوقت الذى يزداد فيه فقر الأغلبية الساحقة من السكان يوما بعد يوم! ولأن النظام الخدمى، خصوصا التعليمى والصحى يبدو متهالكا بدوره، فليس من المتوقع أن يتيح لمصر انطلاقة تنموية فى المدى المنظور.
الثالثة: تتعلق بحال الاستقرار والتعايش الطائفى، والتى ادعى ينون أنها سيئة بسبب وجود أقلية قبطية كبيرة العدد مضطهدة أو مهمشة ومستبعدة من المشاركة فى العمل العام. ولأنها تبلغ فى تقديره ما يقارب 10% من إجمالى السكان وتشكل أغلبية فى جنوب البلاد، فقد أصبحت أكثر ميلا للعزلة وعدم الرغبة فى التعايش مع الأغلبية، خصوصاً فى ظل تنامى تيارات أصولية إسلامية، وربما أصبحت جاهزة للانسلاخ عن الوطن الأم والتفكير فى الاستقلال.
واستناداً إلى هذه الأطروحات الثلاث، والتى تعامل معها بوصفها حقائق لا تقبل الجدل، توصل ينون إلى نتيجة مفادها أن مصر تبدو فى ظاهرها دولة قوية، لكنها فى حقيقتها ليست سوى دولة هشة، وهى حقيقة راحت تتكشف منذ عام 1956 وتأكدت عقب هزيمة 1967 التى أدت إلى خفض قدرات مصر الحقيقية بمقدار النصف على الأقل. وأن استعادة مصر لسيناء، بما تحتوى عليه من ثروات طبيعية خصوصاً فى مجال الطاقة والغاز، تمكن مصر من استعادة بعض عافيتها، يرى «ينون» أن على إسرائيل أن تحول دون ذلك وألا تسمح لمصر بالتقاط أنفاسها من جديد. فى سياق كهذا، لم يكن من المستغرب أن يقترح «ينون» أن تتبنى إسرائيل استراتيجية للتعامل مع مصر تقوم على خطين متوازيين: الأول يستهدف استعادة سيناء، والثانى يستهدف تشجيع قيام دولة ذات أغلبية قبطية فى صعيد مصر. وفيما يتعلق بالخط الأول، حذر «ينون» إسرائيل من تبنى سياسة تقوم على حلول وسط، خصوصاً إذا تضمنت انسحابا من أراض تحتلها، ويلاحظ هنا حرصه على تجنب اللجوء إلى حجج تاريخية واستبدالها بحجج ذات طابع اقتصادى تركز على ضرورة تأمين احتياجات إسرائيل المتزايدة من مصادر الطاقة المختلفة، خاصة النفط والغاز والمعادن الكثيرة التى تحتوى عليها سيناء. غير أنه بدا واضحا من تحليل «ينون» أنه يرمى إلى ما هو أبعد وينظر إلى سيناء باعتبارها منطقة خفيفة السكان وقابلة لتوسع وامتداد عمرانى يصلح لاستيعاب فلسطينيين قد يضيق بهم قطاع غزة المكتظ، أو باعتبارها منطقة صالحة لتوطين نسبة من اللاجئين الفلسطينيين فى إطار حل دائم لمشكلتهم، أو حتى لاستيعاب المزيد من المهاجرين اليهود المتوقع تدفقهم على إسرائيل من مختلف أنحاء العالم، خصوصاً فى ظل التحول التدريجى المتوقع لإسرائيل كقوة عظمى مهيمنة فى المنطقة.
أما فيما يتعلق بالخط الثانى الذى يستهدف تعميق الخلافات بين المسلمين والأقباط والدفع فى اتجاه قيام دولة ذات أغلبية سنية فى الشمال وأخرى ذات أغلبية قبطية فى الجنوب، فيلاحظ أن ينون يؤسس قناعته بأهمية تحقيق هذا الهدف على أمرين على جانب كبير من الأهمية، الأول: أنه يمثل أحد أقصر الطرق وأضمنها لإضعاف الدولة المركزية فى مصر وحرمان العالم العربى من قوة كانت ولاتزال مرشحة دائما لقيادة المنطقة نحو التكامل أو الوحدة، والثانى: أنه أحد أقصر الطرق وأضمنها لخلق أجواء مواتية لتفتت الدولتين المجاورتين لمصر، وهما ليبيا والسودان، لأنهما «لن يصمدا أبداً إذا تفتتت مصر».
فى سياق كهذا، يمكن القول إن خريطة الدولة المصرية بحدودها الحالية مرشحة للتغير، إذا ما نجحت إسرائيل فى تحويل استراتيجيتها لتفتيت العالم العربى إلى حقيقة واقعة، وذلك على النحو التالى:
- فصل سيناء عن مصر ووضعها من جديد تحت الهيمنة الإسرائيلية.
- دولة ذات أغلبية سنية فى شمال الدلتا.
- دولة ذات أغلبية مسيحية فى صعيد مصر.
ورغم أن «ينون» لم يطالب صراحة باستخدام القوة المسلحة، خصوصاً لتحقيق الهدف المتعلق بفصل سيناء عن مصر، إلا أنه يبدو على ثقة من أن السياسة المصرية سترتكب ما يكفى من الأخطاء لتمكين إسرائيل من استغلالها كأعذار تسمح لها بتحقيق أهدافها.
نقلاً عن جريدة "المصري اليوم"