فهمي هويدي
فى حين أبرزت جريدة الأهرام أمس (٢٤/٣) خبر توقيع اتفاق المبادئ حول سد النهضة باللون الأحمر ووصفته بأنه «خطوة تاريخية»، فإن العنوان الرئيسى لجريدة «التحرير» كان كالتالى: الرئيس يوقع والشعب يسأل أين التفاصيل؟ ــ ولم يكن الأمر مجرد سؤال عن التفاصيل، لأن الجريدة ذاتها ذكرت فى عناوينها ان الغموض يتواصل حول بنود الاتفاق. ثم أوردت ضمن عناوين الصفحة الأولى رأيا لخبير مائى لخصه فى عبارة واحدة أن الاتفاق: «مصيبة» تمنح شرعية للمشروع الاثيوبى (!).
صحيح أن الرأى الذى تبنته جريدة الأهرام هو ذاته الذى انحازت إليه بقية الصحف المصرية، إلا أن الحذر الذى أبدته جريدة «التحرير» بدا متفردا ومثيرا للانتباه. ذلك انها نقلت على صفحة داخلية آراء اثنين من الخبراء حول الموضوع. أحد الخبراء، الدكتور مساعد عبدالعاطى الخبير فى القانون الدولى للمياه، هو من وصف المبادئ العشرة التى وردت فى وثيقة إعلان المبادئ بأنها «مصيبة». وقال إن الوثيقة كان ينبغى أن تكون محكمة ومنضبطة من الناحية القانونية، فتنص مثلا على عدة أمور أهمها تقليل السعة التخزينية للسد (المقدر لها ان تصل إلى ٧٥ مليار متر مكعب). كما تنص على مد فترة ملء الخزان بما لا يؤثر على حصة مصر المائية أو الإضرار بها. أيضا كان ينبغى أن تنص على التزام الدول بالتقرير الذى سيصدر عن المكتب الاستشارى. وهى البنود التى تكفل إلزام إثيوبيا بما تم الاتفاق عليه، وتسهل مقاضاتها دوليا إذا أخلت بالتزاماتها.
الخبير الثانى الذى تحدث فى الموضوع هو الدكتور نادر نور الدين أستاذ الموارد المائية والرى بجامعة القاهرة، وقد أبدى عدة ملاحظات مهمة منها ما يلى:
• إن هذه أول وثيقة فى التاريخ الحديث تتحدث فى إنشاء سد، لأن الاتفاقيات الدولية تتحدث عن تقسيم المياه.
• إن الوثيقة لاتعترف بحصة مصر المائية ولاتقر بها، ورفضت الإشارة إلى تلك الحصة التى تقدر بـ٥٥ مليار متر مكعب، وهو ما يؤكد سوء نية الطرف الاثيوبى.
• اثيوبيا فرضت الأمر الواقع على مصر حينما دعت إلى إجراء الدراسات الاستشارية التى سيقوم بها المكتب المختص خلال ١٥ شهرا وليس خمسة أشهر كما أرادت مصر.
وهذا الأجل الذى فرضته اثيوبيا يتوافق مع فترة انتهائها من بناء سد النهضة، وهو ما يعنى أن أديس أبابا وضعت مصر أمام الأمر الواقع. خصوصا انها خططت لبناء السد التالى فى عام ٢٠١٨.
• توقيع مصر على الوثيقة أكسب سد النهضة شرعية وسيترتب عليه عودة التمويل الدولى للمشروع. وهو التمويل الذى كان قد توقف بسبب التحفظات المصرية.
• لأن الوثيقة تهم المصريين جميعا فى حاضرهم ومستقبلهم، فإنه كان ينبغى عرض مضمونها على الرأى العام. لكى يكون على بينة من الخطوة التى ستتخذها السلطة والنتائج المترتبة عليها.
هذا الذى عبر عنه الخبيران يمثل الرأى الآخر فى وثيقة إعلان المبادئ. الذى لم يسمع من قبل. وغاية ما يمكن أن أقوله إنه يستحق المناقشة، حتى إذا جرت تلك المناقشة بعد التوقيع عليها لمحاولة علاج الثغرات التى أشار إليه الخبيران. وإذا شئنا الدقة فالمناقشة مطلوبة على مستويين، مستوى الخبراء الذين هم أدرى بالجوانب الفنية المتعلقة بمضمون الوثيقة أو بصياغتها. ومستوى الرأى العام الذى من حقه أن يحاط علما بمسار قضية مصيرية من ذلك القبيل. وقد لاحظت أن زميلنا إبراهيم منصور رئيس تحرير الجريدة انتقد فى عدد الجريدة ذاته غياب الشفافية فى موضوع الوثيقة، معتبرا أن هذا الاسلوب يعيدنا إلى اساليب العهود السابقة التى يفترض أن مصر تجاوزتها بعد ثورة يناير.
الملاحظة الأخيرة لها أهمية خاصة، ليس فقط بسبب موضوعها. ولكن أيضا لأنها تكررت فى تعليقات بعض الكتاب المحترمين على نتائج أعمال مؤتمر شرم الشيخ الاقتصادى، خصوصا مشروع العاصمة الإدارية الجديدة الذى أعلن عنه وتم توقيع الاتفاق الخاص بتنفيذه، دون أن يسبقه أى حوار مجتمعى، وهو ما يعيد إلى أذهاننا تلك الصيغة العبثية التى تتحدث عن المداولة بعد صدور الحكم!
لا يستطيع ــ ولا ينبغى ــ لأحد أن يقلل من أهمية التفاهم مع اثيوبيا ودول حوض النيل، بقدر ما ان أحدا لايستطيع أن يقلل من ايجابيات مؤتمر شرم الشيخ. لكن تقديرنا لمثل هذه الخطوات الايجابية لايحول دون التحفظ على ما تخللتها من قرارات كبيرة وخطيرة فاجأت الرأى العام الذى أصبح «آخر من يعلم». ومن المفارقات انه فى حين يستمر ذلك التجاهل بين الحين والآخر، فإن وسائل الإعلام عندنا تصر فى عناوينها على أن «مصر تستيقظ»!