مثقفو منتصف العصا

مثقفو منتصف العصا

المغرب اليوم -

مثقفو منتصف العصا

فهمي هويدي

 

أزمة النخبة أعم وأوسع نطاقا مما نتصور، حتى أزعم أنها من أخطر ما ابتلينا به فى زماننا. ذلك أن المثقف إذا تخلى عن الاستماع إلى صوت ضميره وسوغ لنفسه أن يتخلى عن مسئوليته فى الجهر بكلمة الحق فإنه يخون رسالته ويفقد شرعيته.. وإذ أشرت إلى هذا المعنى أكثر من مرة فى كتابات سابقة، إلا أنه ما دفعنى إلى العودة إليه مجددا أمران. أولهما تنامى ظاهرة المثقفين الذين لجأوا إلى الإمساك بالعصى من الوسط، بحيث أصبحوا يضعون قدما فى جانب والقدم الثانية فى جانب آخر. ويطلقون جملة تحتمل التأويل ثم يفرون منها إلى ما يستبعد أى تأويل يفضى إلى الاشتباك ويخل بإطار الموالاة. حتى إن أحدهم حين غاب عن المشهد بعض الوقت، فإنه برر غيابه بادعائه أن صمته بحد ذاته كان موقفا فيه رسالة أراد توجيهها إلى من يهمه الأمر.

الأمر الثانى الذى دفعنى للعودة إلى إعادة إثارة الموضوع أننى قرأت نصا متميزا لأحد الكتاب السوريين نشرته صحيفة الحياة فى 24/12 انتقد فيه مثقفى بلاده الذين يعرفون جيدا طبيعة النظام القائم فى دمشق، ومع ذلك فإنهم وقفوا على الحياد وحرصوا على أن يقدموا أنفسهم باعتبارهم من دعاة المعارضة الناعمة، على حد تعبيره. فى نقده لهؤلاء، استشهد الكاتب، الأستاذ حازم نهار، بمسرحية الأستاذ سعد الله ونوس، التى نشرها فى عام 1993 بعنوان «منمنمات تاريخية». محور المسرحية كان تلك المواجهة التى حدثت فى عام 1400 بين الغازى التترى تيمور لنك وبين ابن خلدون القاضى والمؤرخ وعالم الاجتماع ذائع الصيت.. وما كان يمكن أن يترتب فى العصر الحالى بسبب قرار ابن خلدون ألا يدين تيمور لنك ويرفض مواجهته. تحدثت المسرحية عن زحف تيمور لنك باتجاه دمشق واجتماع الفقهاء فى المسجد الأموى لبحث الأمر، فى حين كان ابن خلدون جالسا ينتظر فى بيت قاضى القضاة. دارت المناقشة بين الفقهاء حول ما إذا كان عليهم إصدار فتوى بوجوب الجهاد ضد تيمور لنك أم استرضاؤه. وانتهوا إلى ضرورة إعلان الجهاد، الأمر الذى ترتب عليه نشوب معركة قتل فيها كثيرون.

ابن خلدون الذى لم ير أن هؤلاء الفقهاء لا يمثلون النخبة ارتأى أنه لا جدوى من الجهاد ضد قوى جارفة مثل تيمور لنك. لذلك فإنه التقى الرجل وخرج من اللقاء ليدعو وجوه دمشق إلى الاستسلام. وبذلك فإنه فصل بين الموقف وبين المعرفة، واعتبر أن المعرفة أقوى وتدوم أجلا أطول.

وبَّخ سعد الله ونوس ابن خلدون على موقفه. واعتبر تحفظه مسلكا اتسم بالحماقة، والانتهازية السياسية؛ لأنه رفض تحدى تيمور لنك بحجة معرفته المسبقة بنتائج المعركة وإدراكه لأطوار حياة الدول. وسأل الجمهور عن النتائج التى كان يمكن أن تحدث لو قرر العالم الكبير أن يتدخل، وربما غيَّر ذلك من وجه التاريخ. وفى رأى المؤلف أن ابن خلدون لم يكن مهتما بالتغيير أو بالتطور، وإنما كان مهتما بنجاته ونظرياته التى توصل إليها حول حياة الدول.

ذكر الأستاذ حازم نهار أن «منمنمات تاريخية» تطرح السؤال الكبير حول موقف المثقف من الظلم: هل يرفضه ويقاومه، أم أن عليه أن يحسب نتائج رفضه ومقاومته ويحدد موقفه فى ضوئها؟. وهو يسأل أيضا: هل أخطأ ابن خلدون عندما حافظ على حياته وتحليلاته وأعطى تيمور لنك الأمان الذى طلبه منه؟ وعقب على ذلك قائلا إن توصيفات وتحليلات ابن خلدون عاشت أمدا أطول من الأفعال العاطفية والنضالية التى قام بها المجاهدون لإيقاف الزحف التترى، لكن ذلك يدعونا إلى إعادة النظر فى سلامة موقفه وصواب نصيحته، رغم أن التاريخ نسى الذين قاتلوا وماتوا، واعتبر المتقاعس بطلا. وعلق الكاتب على ذلك قائلا: إن سعد الله ونوس ترك الخيار لمشاهدى المسرحية لكى يقرروا بأنفسهم إن كانت تلك الشخصية التاريخية قد اتخذت القرار الصحيح أم لا. لكنه لم يدع مجالا للشك ليقول إن المعرفة تقتضى مسئولية على من يحملها. وعلى المثقفين أن يتدخلوا فى الشئون العامة لمقاومة المعتدين والطغاة. فالكتابة عند ونوس سياسة بطبيعتها. ومن يقف جانبا يعين الطاغى على طغيانه. بمعنى آخر فليس هناك حياد فى الثقافة. والمثقف حين يختار الحياد فإنه يخون رسالته.

ذكر الكاتب أن وزير الدفاع يوسف العظمة السورى حين خاض معركته ضد الفرنسيين فى معركة ميسلون (عام 1920) كان يعلم أن جيشهم ثلاثة أضعاف رجاله وأنهم أفضل تسليحا، ومع ذلك فإن الرجل خاض المعركة بشرف واستشهد فيها. ورغم أنه فقد حياته إلا أنه سجل نقطة مضيئة وأحدث فرقا فى تاريخ بلاده. وأراد الأستاذ حازم بذلك أن يدق الأجراس منبها المثقفين السوريين إلى أنهم لن يستطيعوا أن يحدثوا ذلك الفرق فى تاريخ بلادهم إلا إذا أعلنوا رفضهم الصريح للاستبداد وتخلوا عن حيادهم وانتهازيتهم.

حين انتهيت من قراءة النص قلت إن الرسالة ينبغى أن تعمم على كل المثقفين العرب. علما بأن أغلبهم حين حذوا حذو ابن خلدون فى موقفه، فإنهم لم يقدموا للناس شيئا من معارفه، لذلك ظل حرصهم على التمسح فى عتبات السلاطين مقدما على رغبتهم فى التغيير أو دخول التاريخ ـ وا أسفاه.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

مثقفو منتصف العصا مثقفو منتصف العصا



GMT 18:19 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

مسرح القيامة

GMT 18:15 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

لبنان... و«اليوم التالي»

GMT 18:09 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

لماذا توثيق «الصحوة» ضرورة وليس ترَفاً!؟

GMT 18:05 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

جهود هوكستين: إنقاذ لبنان أم تعويم «حزب الله»؟

GMT 18:00 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

ذكرى شهداء الروضة!

GMT 17:54 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

الشريك المخالف

GMT 17:52 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

كفاءة الحكومة

GMT 17:49 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

اليوم العالمى للقضاء على العنف ضد المرأة

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ المغرب اليوم

GMT 17:18 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

روسيا تتعاون مع الحوثيين لتجنيد يمنيين للقتال في أوكرانيا
المغرب اليوم - روسيا تتعاون مع الحوثيين لتجنيد يمنيين للقتال في أوكرانيا

GMT 15:24 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

أفكار لتوزيع قطع الأثاث حول المدفأة
المغرب اليوم - أفكار لتوزيع قطع الأثاث حول المدفأة

GMT 18:33 2024 السبت ,26 تشرين الأول / أكتوبر

نقاش فلاحي يجمع المغرب وإسبانيا

GMT 06:29 2015 الأربعاء ,09 كانون الأول / ديسمبر

منفذة هجوم كاليفورنيا تعلمت في مدرسة دينية باكستانية

GMT 21:33 2021 الخميس ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

البدلة السوداء خيار كلاسيكي للرجل الأنيق

GMT 00:08 2018 الإثنين ,19 شباط / فبراير

تعرفي على حيل لزيادة مساحة "الغرف الضيقة"

GMT 08:16 2017 الجمعة ,13 تشرين الأول / أكتوبر

أبرز المعالم السياحية في مدينة صوفيا البلغارية

GMT 09:01 2020 الجمعة ,09 تشرين الأول / أكتوبر

تعرف على Sorento الجديدة كليا من كيا
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib