فهمي هويدي
قبل أيام نشرت عدة صحف مصرية نداء موجها إلى المسئولين فى الدولة دعاهم إلى إنقاذ مدينة ٦ أكتوبر من عشوائية الإعلانات واللافتات التى باتت تشوه الشوارع والميادين وتفسد بيئة المكان الذى نزح إليه السكان هربا من ضجيج وتلوث أجواء القاهرة. حدث ذلك بعد أسابيع قليلة من شكوى سكان حى مصر الجديدة من الهجمة التترية التى استهدفت حديقة الميريلاند. التى هى واحدة من أشهر وأبرز المناطق الخضراء فى الحى. وهى الهجمة التى أدت إلى اغتيال الخضرة وقطع الأشجار تمهيدا لإقامة «كازينو» جديد فى المنطقة. وقبل هؤلاء وهؤلاء أثار سكان حى الزمالك ضجة لمنع اختراق شريط المترو لمحيطه. لكى يصل إلى بعض الأحياء الأخرى. وهو ما نجح سكان الزمالك فى إيقافه ليس فقط لأن صوتهم كان عاليا ولكن أيضا لأن أوضاعهم الاجتماعية فرضت على السلطة أن تنصت إليهم وتستجيب لرغبتهم. وهو ما لم يتوافر لسكان مدينة ٦ أكتوبر الذين انتقدوا فى ندائهم المنشور (فى ٢/٤) جهاز الإدارة الذى بات يمنح تصاريح الإعلانات دون ضابط يراعى أجواء المدينة وراحة سكانها، فضلا عن اعتبارات الذوق العام الذى هو جزء من النظام العام. ذلك أن أكثر ما يهم جهاز الإدارة فيما يبدو هو العائد المالى الذى يرفع دخله، وينعش موارده. خصوصا أن أكثر مؤسسات الخدمات فى الدولة أصبحت تعتنى بالتحصيل والجباية، بأكثر من عنايتها بالخدمة التى تقدمها للناس.
بهذه المناسبة فإن ما فعله جهاز ٦ أكتوبر هو ذاته الذى فعلته محافظة القاهرة التى استسلمت لغواية الجباية فحولت جوانب الجسور الأساسية التى تخترق قلب العاصمة إلى لوحات إعلانية تنافست الشركات على استغلالها للدعاية لمنتجاتها. جنبا إلى جنب مع شركات توزيع الأفلام وقنوات التليفزيون التى عمدت إلى إغراق الفضاء بصور مقدمى برامجها وهم يوزعون ابتساماتهم على العابرين، ويكادون يخرجون ألسنتهم لهم. ورغم أن أحدا لا يستطيع أن يتجاهل الجهد الكبير الذى بذلته محافظة القاهرة للتغلب على غزو الباعة الجائلين لشوارع وميادين قلب العاصمة، إلا أن المحافظة ضعفت أمام ما تدره الإعلانات من عوائد.
وكانت النتيجة أنها أراحت السكان من تشويه الشوارع والميادين وغضت الطرف عن تشويه الفضاء وتلوثه فخففت من صداعهم وبعض زحامهم وسمحت بإيذاء أعينهم وإفساد أذواقهم.
حى مصر الجديدة الذى شهد مذبحة الأشجار حاله أسوأ بكثير. ذلك أن المذبحة كانت جزءا من حملة تغيير هوية الحى، التى تواطأ فيها بعض المستثمرين الجشعين مع بعض موظفى الإدارة الطامعين أو الفاسدين. ولأننى من سكان ذلك الحى فإننى أزعم أن الحملة المذكورة تتجاوز بكثير ما حدث ويحدث فى أى حى آخر بالقاهرة. لسبب جوهرى هو أن ذلك الحى الذى ظهر إلى الوجود فى بداية القرن الماضى (عام ١٩٠٥) بدأ امتدادا عصريا راقيا لمدينة القاهرة، وجرى التخطيط له وضبط قواعد البناء والعمران فيه على أيدى بعض الخبراء الأجانب، إلا أنه تعرض للنوازل والهزات التى تعرض لها العمران والمجتمع فى مصر، وظلت أوضاعه تتراجع حينا بعد حين. إلى أن أصبح فريسة الجشع والفساد والطمع. حيث زحفت عليه الأبراج العالية، بعدما كانت ارتفاعات البنايات لا تتجاوز أربعة أو ستة طوابق كحد أقصى. وهى البنايات التى أصبحت تهدم يوميا لتحل محلها الأبراج بما تستصحبه من تكدس وأعباء على المرافق والخدمات، كما انتشرت فيه المقاهى كالفطر فى انتهاك صارخ لراحة السكان وفى عدوان صريح على اللوائح التى تحمى حرمة المناطق السكنية. وتلك المقاهى أصبحت تجذب جيوش الشباب الذين يحتلون الميادين ونواصى الشوارع كل مساء. فيتصايحون ويرقصون ويتعاركون، ويطلقون الألعاب النارية ويتعاطون المخدرات، وهم مطمئنون إلى أن الأجهزة الأمنية مشغولة عنهم بما نعرف من شواغل.
النتيجة أن حى مصر الجديدة الهادئ والمنظم والخاضع للقواعد والقانون. أصبح نموذجا للنقيض من كل ذلك. فلا هدوء ولا نظام ولا قانون، وهو أكثر ما يتجلى فى المساء حين يحل الظلام وتزدحم المقاهى بروادها والميادين والنواصى بحلقات الخلايا «الصايعة» التى تفد من كل صوب بالسيارات والدراجات البخارية التى تذرع الشوارع محدثة أصواتا مجنونة طوال الليل. وفى هذه الأجواء لا يرى للشرطة أثرا ولا للسلطة وجودا ولا للدولة حضورا أو هيبة من أى نوع. ويظل السكان هم ضحايا تلك الفوضى التى لا يكاد يرى أمل فى علاجها.
لا يوجد مجلس محلى يحاسب ويراقب ويرفع أصوات الناس (آخر انتخابات محلية تمت فى سنة ٢٠٠٨) ولا توجد سوى رئاسة للحى وأقسام للشرطة، والحى هو الطرف الأساسى الذى سمح بهذه الفوضى جراء رعونة بعض العاملين فيه وفساد البعض الآخر. والشرطة مشغولة بالأمن السياسى أما الأمن الاجتماعى فإنه لم يعد من اختصاصهم. بالتالى فلم يبق أمام الناس إلا أن يتبادلوا الشكوى فيما بينهم، ثم يرفعون أصواتهم عبر وسائل الإعلام موجهين النداءات ومرسلين المناشدات لإنقاذ الحى قبل أن يضم إلى العشوائيات التى باتت مصيرا نرى شواهده وإرهاصاته بأعيننا كل صباح.
لا أنسى أن فى مصر مدنا وقرى أسوأ حالا بكثير، لكننى أفهم أن الجهد ينبغى أن يبذل لتحسين أوضاعها وإعطائها الأولوية فى جهود النهوض والإعمار. إلا أننى أفهم فى الوقت ذاته أننا ينبغى ألا نسمح بتدهور أوضاع المناطق الأفضل حالا لكى لا تنضم إلى العشوائيات.
إننا لا نريد أن تعم البلوى، لكن من الحكمة وحسن النظر ألا نتردد فى إنقاذ ما يمكن إنقاذه من المصير البائس الذى بات يهددنا حينا بعد حين.