(1)
يوم الجمعة 6 فبراير الحالى نشرت المنابر والمواقع وثيقة الصلة بالأجهزة الأمنية المصرية معلومات مثيرة عن مشاركة بعض الضباط المفصولين فى العمليات الإرهابية التى شهدتها سيناء. فقد ذكرت «اليوم السابع» أن الأجهزة الأمنية تكثف جهودها للقبض على أهم ثلاثة من العناصر الإرهابية التى اتهمت بالاشتراك فى تنفيذ والتخطيط لعدد من أخطر العمليات الإرهابية، التى كان من بينها تفجيرات العريش الأخيرة وعملية كرم القواديس التى قتل فيها أكثر من 30 مجندا، إضافة إلى محاولة اغتيال اللواء محمد إبراهيم وزير الداخلية. الثلاثة المذكورون ضباط سابقون فصلوا من القوات المسلحة والشرطة نظرا لميولهم الجهادية. وقد أوردت الجريدة أسماءهم الحقيقية والحركية. كما ذكرت ان منهم من سافر إلى تركيا لكى يشارك مع بعض الجماعات المقاتلة فى سوريا ومنهم من سافر إلى ليبيا وغزة، ومنهم من اشترك فى اعتصام رابعة. وتحدث التقرير المنشور عن أن هؤلاء الضباط تولوا تدريب العناصر الإرهابية، كما نقلوا إليهم خبراتهم العسكرية إلى جانب معلوماتهم عن الأجهزة الأمنية.
«البوابة نيوز»، نشرت تفصيلات أخرى حول الموضوع فذكرت أن أحد أولئك الثلاثة ضابط مفصول من «الصاعقة»، وانه العقل المدبر لمذبحة العريش. وهو يقود مجموعة مكونة من 200 شخص ويتولى مسئولية فرع «داعش» فى سيناء، ومن المعلومات التى نشرتها الجريدة أن الذين فصلوا من الشرطة بسبب أفكارهم الجهادية عددهم 105 بين ضباط وأمناء شرطة. أما الذين تم فصلهم من الجيش فعددهم ليس معروفا بالضبط.
فى التقرير المنشور أيضا تفصيلات أخرى عن الضباط المفصولين ودورهم فى العمليات الإرهابية. من هؤلاء ضابط الصاعقة (هـ. ش) الذى سبقت الإشارة إليه، وكان ضمن الفرقة 777 وظل يعمل فى سيناء مدة عشر سنوات وقد خرج من الخدمة منذ سبع سنوات. وبعد خروجه كون مجموعة إرهابية ضمت مجموعة من الجهاديين بينهم أربعة من ضباط الشرطة المفصولين لعلاقتهم بالإخوان والجماعات التكفيرية. وسبق اتهامه فى محاولة قتل وزير الداخلية كما اتهم فى تفجير كمين واحة «الفرافرة» قبل شهرين. وقد تم رصده أكثر من مرة إلا أنه كان ينجح فى الهروب فى كل مرة لخبرته الطويلة بمسالك ودروب سيناء، وعلاقاته القوية ببعض شيوخ القبائل وشباب البدو، تحدث التقرير أيضا عن ضابط شرطة آخر كان يعمل بقطاع الأمن المركزى ومصلحة السجون، وتم فصله بعدما وصل إلى رتبة مقدم وانكشف أمره، وقد أصبح الآن مفتى داعش وخطيبها المفوَّه فى سيناء.
نسب التقرير إلى أحد المسئولين الأمنيين قوله إن الضباط المفصولين وأيضا الطلاب المفصولين من الكليات العسكرية والشرطة يشكلون قنابل موقوتة ويخططون للعمليات الإرهابية بحرفية تفوق قدرة الإرهابيين العاديين فى ذلك. إذ إنهم يملكون معلومات لا تتوفر لغيرهم وخبرتهم تساعدهم على ذلك. كما انهم يعلمون أوقات تبديل ورديات العمل وثغرات الكمائن وكم التسليح وأسرار الخطط العسكرية والأمنية.
(2)
هذه المعلومات المهمة تسلط الضوء على جانب من خلفيات مشهد العنف الحاصل فى سيناء لم يكن معلوما من قبل، بالنسبة للرأى العام على الأقل. وإذا أمسكنا بذلك الخيط وتتبعنا العمليات التى أعلنت جماعة أنصار بيت المقدس عن مسئوليتها فى تنفيذها، فسوف نلاحظ أمرين مهمين، أولهما، أنها استهدفت مقار ورموز الشرطة والجيش، والأمر الثانى أنها تمت بدرجة عالية من الحرفية فى التخطيط والتنفيذ. وهذه العمليات هى:
• عام 2013: محاولة اغتيال وزير الداخلية اللواء محمد إبراهيم فى 5 سبتمبر ــ تفجير مبنى المخابرات العسكرية بالإسماعيلية فى 19 أكتوبر ــ قتل ضابط أمن الدولة محمد مبروك خارج منزله فى 17 نوفمبر ــ تفجير مقر مديرية أمن الدقهلية فى 24 ديسمبر.
• عام 2014: تفجير مبنى مديرية أمن القاهرة فى 24 يناير ــ مهاجمة كمين شرطة فى بنى سويف يوم 23 يناير ــ إسقاط مروحية فى سيناء فى 26 يناير ــ الهجوم على كمين للجيش فى واحة الفرافرة ومقتل 22 جنديا فى 20 يوليو ــ الهجوم على كمين الجيش فى كرم القواديس وقتل أكثر من 30 جنديا فى 24 أكتوبر.
• عام 2015: الهجوم على الأهداف والمواقع الأمنية فى العريش يوم 30 يناير، الذى أسفر عن قتل أكثر من 40 شخصا أغلبهم من جنود الجيش.
لا وجه لمقارنة العمليات سابقة الذكر بحوادث العنف الأخرى التى شهدتها بعض المحافظات بعد فض الاعتصامات والتى تمثلت فى خروج بعض المظاهرات أو وضع عدة قنابل بدائية فى بعض الأماكن العامة، أو حتى حوادث استهداف بعض رجال الشرطة، ذلك ان ثمة تفاوتا هائلا بين الحالتين سواء فى حجم العمليات أو مستوى الأداء، فى ذات الوقت فإن المرء لن يحتاج بذل جهد من أى نوع لكى يدرك أن الأولين مختلفون عن الأخيرين، بالتالى فإن وضعهما فى كفة واحدة واعتبارهما كيانا واحدا يصبح من قبيل التغليط الذى يفضى إلى الخطأ فى التحليل والتقدير.
(3)
هذه التفرقة بين جماعة أنصار بيت المقدس التى انطلقت فى سيناء وانضمت إلى «داعش» مؤخرا، وبين المجموعات الأخرى التى تمارس العنف فى أنحاء مصر بالغة الأهمية فى السياق الذى نحن بصدده. صحيح أن التحول فى مسار أنصار بيت المقدس من النضال ضد إسرائيل إلى تحدى السلطات المصرية خارج سيناء يحتاج إلى دراسة وتحقيق، إلا أننا سنغض الطرف عن ذلك الجانب فى الوقت الراهن، ذلك أكثر ما يهمنا هو أنها تحولت إلى أحد مصادر العمليات الإرهابية التى استفزت المصريين وملأتهم بالغضب، خصوصا انها حصرت نشاطها فى الاشتباك مع الجيش والشرطة. أهمية التفرقة التى أركز عليها تكمن فى أنها تفتح أعيننا على جوانب مهمة فى محاولة تفكيك الإرهاب وفهم مكوناته.
فى هذا الصدد ينبغى ان يلفت انتباهنا ان أنصار بيت المقدس جماعة واحدة، لم تتردد فى إعلان مسئوليتها عن العمليات التى تقوم بها، وكثيرا ما تقوم بتصويرها تليفزيونيا. أما أعمال العنف الأخرى الحاصلة فى بر مصر فليس معلوما الطرف الذى يقوم بها، وان كان المتواتر ان أطرافا عدة تشارك فيها، وللإخوان وأنصارهم دورهم المحورى فيها. وفى حين تكون الصدامات المسلحة هى الأصل فى عمليات «الأنصار» فإن المظاهرات والمسيرات تشكل أهم مظهر لأنشطة الإخوان والمتحالفين معهم.
الأهم مما سبق أن عقيدة «السلفية الجهادية» التى تكفر الآخرين وتعمد إلى التغيير بالقوة تمثل المرجعية الفكرية «للأنصار» الأمر الذى شكل نقطة لقاء بينهم وبين جماعة داعش، فى حين أن فكرة التكفير ليست واردة فى مرجعية الآخرين. وبمقتضى اعتقاد السلفية الجهادية فإن الآخرين إما كفار أو مرتدون، الأمر الذى يسوغ استحلال دمائهم. وهو أعلنته داعش صراحة التى اعتبرت رموز الإسلام السياسى ضمن المرتدين، وخصت بالذكر إخوان مصر الذين تمكنوا من السلطة ولم يطبقوا شرع الله، واعتبروا ذلك مسوغا لوصمهم بالنفاق والردة.
بسبب ذلك الخلاف فى المرجعية الفكرية فإن الأنصار يعتبرون أنفسهم فى صراع عقيدى مع النظام المصرى ويزعمون أن إسقاطه واجب شرعا، فى حين أننا نعلم أن الذين يطلقون المظاهرات فى أنحاء مصر يعتبرون ذلك ضمن الصراع السياسى وليس العقيدى، ويتصورون أنهم بما يفعلونه يضغطون على النظام لحسابات سياسية معينة.
(للعلم: فى عام 2009 أعلن فرع جماعة السلفية الجهادية فى غزة عن قيام إمارة إسلامية فى أكناف بيت المقدس. واتخذ من مسجد ابن تيمية بالقطاع مقرا للقيادة العسكرية للإمارة الجديدة. وفى خطبة الجمعة دعا زعيمهم إلى الجهاد ضد حكومة حماس، التى حاصرت قواتها المسجد واشتبكت مع المسلحين الذين تحصنوا بداخله. وأسفر الاشتباك عن مقتل 21 عضوا من عناصر الجماعة بينهم قائدهم الشيخ عبداللطيف موسى الذى اشتهر باسم أبوالنور المقدسى).
شيطنة الآخر فى مصر أصبحت القاعدة والأساس فى الخطاب السياسى والإعلامى. ذلك ان كل المتظاهرين إرهابيون، وكل الإرهابيين سواء، هدفهم إسقاط الدولة وإعلان الحرب على الجيش والشرطة. لذلك فإن دم الجنود فى رقاب الجميع، ويحق للمجتمع أن يثأر منهم وينتقم. حتى رأينا أنه بعد عملية أنصار بيت المقدس التى وقعت بالعريش فى 30 يناير الماضى، جرى الانتقام والثأر لشهدائها بإشعال عدة حرائق فى بنى سويف ودمياط والفيوم. وهو ما أبرزته بعض الصحف المصرية وامتدحه بعض الكتاب باعتباره من قبيل حيوية الشعب وانتفاضه للدفاع عن شهدائه.
إن تفكيك الإرهاب والتعرف على مكوناته وأوزانهم يمثل خطوة محورية فى محاولة القضاء عليه، ناهيك عن انه من مقتضيات العدل والانصاف. ومشكلته أنه يتطلب عدولا عن حملات التهييج والشيطنة التى تعد أسهل السبل للخلاص من الآخر وإسكات صوته إلى الأبد. وذلك نهج «داعشى» بامتياز، من حيث انه لا يقبل بمبدأ الفرز بين المخالفين، ويعتبر أن المقابر الجماعية هى المكان الوحيد الجدير بهم.
حين هاجم رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو حماس وساوى بينها وبين داعش، تصدى له آخرون ممن رفضوا فكرة التماثل بينهما، رغم بغضهم لحماس واعتبارها حركة تخريبية من وجهة نظرهم. وكان من بين هؤلاء افرايم هليفى رئيس الموساد السابق ويوعز هندل من كتاب صحيفة يديعوت أحرونوت. بل انهم حينما زادت عمليات العنف ضد الإسرائيليين فى الداخل، فإنهم لم يسارعوا إلى اتهام خصومهم التقليديين من حماس والجهاد والجبهة الشعبية، وانما أدركوا أنها من قبيل المبادرات الفردية التى عبرت عن تزايد معدلات الغضب بين أجيال الفلسطينيين، الأمر الذى نبههم إلى أن فكرة الانتفاضة الثالثة لم تعد مستبعدة.
لقد فهمنا من بعض التسريبات التى جرى بثها فى الآونة الأخيرة أن تسخين الرأى العام وتهييجه باستخدام الأبواق الإعلامية هو الأسلوب المفضل فى التعامل مع بعض الملفات المفتوحة، وذلك نهج إذا استمر فإنه يغلق الأبواب أمام الدعوة إلى الفرز والتفكيك، التى ستكون بمثابة محاولة لحصار الحرائق وتطويقها، فى حين أن التهييج مطلوب لاستمرار الحرائق وإشغال الناس بتمددها.