فهمي هويدي
أظرف وأخبث تعليق وقعت عليه هذا الأسبوع نصه كالتالى: الكلام عن الدعم والمساعدات الكبيرة التى تقدمها الولايات المتحدة لمصر لا يتنافى مع حقيقة المؤامرات وحروب الجيل الرابع الأمريكية على مصر. بل يؤكد بما لا يدع مجالا للشك فى ان مشكلتنا الحقيقية مع أمريكا وليست مع الولايات المتحدة، (لذلك) لا يجب أن ندع عداوتنا وكراهيتنا المطلقة للأولى تؤثر على علاقتنا الأخوية المتينة مع الثانية!
بهذه الصغية الذكية وخفيفة الظل حل الكاتب الساخر سامح سمير على الفيس بوك المشكلة التى تحير المواطن العادى فى مصر. وهو الذى تخرج عليه وسائل الإعلام بين الحين والآخر بتصريحات عن العلاقات الوثيقة والتعاون الاستراتيجى مع الولايات المتحدة. فى حين تخرج علينا فى أحيان أخرى بسيل من التعليقات والتحليلات عن التآمر الأمريكى على مصر، وجهود المخابرات الأمريكية لاستعادة حكم الإخوان واختراقات التنظيم الدولى للبيت الأبيض وتبعية بعض كبريات الصحف الأمريكية لمكتب إرشاد الجماعة. وإذ سجل صاحبنا ذلك التناقض، فإنه لم يجد له تفسيرا سوى اللجوء إلى الخيال واكتشافه ان الولايات المتحدة لابد أن تكون بلد آخر غير أمريكا. وانطلق فى ذلك من ثقته واطمئنانه إلى صواب موقف الإعلام المصرى، الأمر الذى دفعه إلى استبعاد افتراض أن يكون الاثنان بلدا واحدا، ومن ثم وجد الحل فى أنهما لابد أن يكونا بلدين مختلفين.
ما يثير الانتباه ليس مضمون الرسالة فقط والفكرة التى حل بها الكاتب التناقض بين الموقفين، وإنما أيضا صداها السريع وواسع النطاق لدى جمهور الفسابكة. ذلك أنه بعد ساعات قليلة من بثها يوم ٢٦ سبتمبر الحالى تناقلتها مواقع التواصل الاجتماعى ولقيت ترحيبا من نحو خمسة آلاف شخص، ولم أتابع عددهم فى الأيام التالية. ولم يكن الصدى مقصورا على حجم المؤيدين الذين أعجبتهم الفكرة وإنما جاء الصدى حافلا بقدر معتبر من تعليقات ظرفاء المصريين وتحليلاتهم الذكية. الأمر الذى يطمئنا إلى أنه رغم الاحتقان والجو المشحون بالمرارة والتوتر، فإن معين السخرية فى مصر لم ينضب بعد، وإن رصيدها الاحتياطى المتوفر يغطى احتياجات عدة سنوات مقبلة.
رغم السخرية والفكاهة فى الموضوع، إلا أن التعليق يثير قضية على جانب من الأهمية والجدية. إذ يذكرنا بالتحليلات التى اعتبرت النكتة المصرية ضمن أسلحة التعبير السياسى التى تتوسل بالسخرية لنقد الأوضاع وفضح تناقضاتها، الأمر الذى يخرجها من نطاق الجدل إلى الهزل ومن المسئولية إلى العبث.
فالمواطن المصرى البسيط يعذر إذا انتابته الحيرة فى تحديد موقفه إزاء الولايات المتحدة، التى نمتدحها ونعتز بالتحالف الاستراتيجى معها وتبرز وسائل إعلامنا كل اطراء يصدر عن مسئوليها لأولى الأمر فى بلادنا. ثم فجأة نتهمها بالتآمر على مصر ونتحدث عنها باعتبارها عدوا يتربص بنا ولا يتمنى لنا خيرا. وفى هذه الحالة لا يعرف ذلك المواطن ما إذا كانت أمريكا معنا أم ضدنا. ويصبح التحليل الذى أورده الكاتب الساخر أحد التفسيرات البسيطة التى تحل له الإشكال.
الكلام الجاد فى هذا الموضوع ينبه إلى أن تناقض المواقف له مصدران مهمان، الأول تتمثل فى الخلط والالتباس فى فهم الموقف الأمريكى. ذلك أن أمريكا ليست شيئا واحدا. فالديمقراطيون غير الجمهوريين. والصحف وقنوات التليفزيون لها مذاهب شتى والاكاديميون وخبراء مراكز الأبحاث قد يكون لهم آراء أخرى مخالفة لما يطرحه الجميع. وبين هؤلاء من يؤيد مصر على طول الخط (الجمهوريون مثلا) ومنهم من لا يكف عن انتقاد أوضاع الحريات وحقوق الإنسان فى مصر كالديمقراطية. وذلك التباين حاصل فى جميع المنابر الأخرى، أما ما يعبر عن موقف الدولة فهو البيت الأبيض ووزارة الخارجية، وما يصدر عنهما يتحرى المصالح الأمريكية فى نهاية المطاف، ويلتزم بالتحالف الاستراتيجى مع مصر سواء اتفق مع سياساتها أو اختلف معها.
الأمر الثانى ان توجهات السياسة الخارجية فى مصر محكومة إلى حد كبير بتطورات الأوضاع الداخلية. وطالما ظل صراع السلطة ضد الإخوان حاصلا فى مصر، فإنه سيظل أحد المحددات الرئيسية للسياسة الخارجية. فمن خاصم الإخوان صالحناه ومن هادن الإخوان خاصمناه ومن أعانهم اتهمناه ومن حاربهم حالفناه. ذلك حاصل مع الدول ومع المنظمات الحقوقية الدولية ومنظمات الأمم المتحدة، الأمر الذى يعد تطبيقا لشعار من ليس معنا فهو ضدنا، رغم أن ذلك قد لا ينطبق بالضرورة على الواقع، لان بعضا قد لا يكون معنا حقا، ليس لانه بالضرورة ضدنا ولكن لان له مصالح مغايرة أو حسابات تختلف عن حساباتنا.
أزعم أن هذا العنصر الثانى يفسر الكثير من توجهات السياسة الخارجية المصرية التى يكتنفها التناقض أو الغموض، ولا سبيل لفهمها وحل غوامضها إلا بالنظر إلى اتجاهات الريح فى الداخل ــ والله أعلم.