دعوة لعقلنة المواجهة

دعوة لعقلنة المواجهة

المغرب اليوم -

دعوة لعقلنة المواجهة

فهمي هويدي

لا أعرف متى وكيف نضع حدا للوثة التى أصابت البعض فى مصر، وحولت اللامعقول إلى أخبار عادية تنشرها الصحف ويألفها الناس، بحيث لا يرون فيها غضاضة أو غرابة. خذ حكاية حرق الكتب التى صدمنا حين فوجئنا فى منتصف شهر ابريل الماضى بأنها تمت فى فناء إحدى مدارس منطقة الجيزة تحت إشراف «مربيِّن» مسئولين. وهوما أزعج كثيرين آنذاك. إلا أن المشاعر هدأت بمضى الوقت ثم فوجئنا فى الثالث والعشرين من شهر يونيو الحالى بخبر خلاصته أن وزير الأوقاف أصدر أمرا بتطهير مكتبات المساجد من كتب بذاتها والتخلص منها بحرقها. ولم يكن ذلك أغرب ما فى الأمر، لأن الأغرب والذى كان صادما أيضا أن عددا غير قليل من الحداثيين والليبراليين ومن اعتبروا أنفسهم «تقدميين» سكتوا على العملية ولم نسمع لهم صوتا استنكر أو استهجن. وهو ما دعانى إلى التساؤل عما إذا كان الاحتجاج فى المحرقة الأولى لم يكن على مبدأ إحراق الكتب ولكن لأن كتب مؤلفين بذواتهم جرى إحراقها. ذلك أنها كانت لأناس لا علاقة لهم بالإسلام السياسى. من أمثال الشيخ على عبدالرازق والدكتور عبدالرزاق السنهورى والدكتور حسين مؤنس والدكتور عثمان أمين وغيرهم. أما الدفعة الثانية التى أريد إحراقها فقد ضمت كتبا للأساتذة حسن البنا وسيد قطب والدكتور يوسف القرضاوى، وهى ضمن الأسماء التى خضعت للشيطنة فى الوقت الراهن. وأصبحت هدفا للاستئصال والمحو من التاريخ، كأشخاص وأفكار. ومن ثم فقد اعتبرت الأجواء الراهنة أن كل ما صدر عنهم من قبيل النجاسة التى تلوث الأجواء وتفسد طهارة عقول الشباب وتدفعهم إلى العنف.

أما كيف يمكن أن يصدر وزير الأوقاف تعليمات بهذا المضمون (جريدة المصرى اليوم نشرت الخبر فى ٢٣/٦ ولم يصدر عن مكتب الوزير أى نفى أو تصويب له). ولماذا سكت المثقفون الليبراليون ونسوا كل ما كانوا يرددونه من أقوال حول أهمية مقارعة الأفكار بالأفكار وضرورة اتساع الصدر للقبول بالآخر والاستماع إلى وجهة نظر المخالفين، فعلم ذلك عند ربى. لكن المؤكد أن قرار الوزير الهمام ومواقف المثقفين الساكتين ستظل سُبَّة فى جبين كل واحد منهم إلى يوم الدين. ولن يذكر فى سجل الجميع سوى أنهم كانوا شركاء ومحرضين ومرحبين بحرق الكتب فى بداية القرن الواحد والعشرين.

إلى عهد قريب كانت مصادرة الكتب هى أقصى وأقسى ما ذهبت إليه السلطة من إجراءات قمعية. وكانت عملية المصادرة تقابل بحملة استنكار عاتية من الجميع. ولكن ذلك الزمن ولى، بحيث أصبحت أجواء اللوثة تحتمل حرق الكتب وسط سكوت بعض المثقفين والإعلاميين وترحيبهم!
لست أدافع عن الأفكار التى تتضمنها الكتب بقرار وزارى أو تقارير أمنية لكننى أتحدث عن عار التصدى للأفكار المغايرة عن طريق إحراق الكتب التى تضمنتها الأمر الذى يعيدنا إلى عصور الانحطاط السياسى والتخلص الفكرى.

ولئن فهمنا ولم نستغرب أن تلجأ جماعة داعش إلى ذلك الأسلوب فيما يسمى بالدولة الإسلامية. باعتباره سلوكا يليق بالنموذج الذى يقدمونه، إلا أننا لا نستطيع أن نصدق تكراره فى بلد كمصر برصيدها الثقافى وثقلها الحضارى. ولا تفسير لذلك السلوك سوى أنه من تجليات اللوثة التى هبت على البلاد فقلبت الموازين وأفسدت العقول والمدارك.

فى أجواء اللوثة سمعنا أحد الإعلاميين يتحدث فى حوار تليفزيونى عن أن الرئيس السيسى ليس أمامه من سبيل إزاء المعارضين الآن سوى أن يقيم لهم مذبحة مشابهة لتلك التى فعلها الوالى محمد على باشا للتخلص من معارضيه المماليك. وقرأنا لمن قال إن تنفيذ الإعدام فى المعارضين ليس كافيا. واقترح أن تحرق جثامينهم بعد الإعدام نكاية بهم. وقرأنا لكاتب كبير تهديده باقتحام بيوت المعارضين وتصفية سكانها انتقاما منهم، بعد وقوع حوادث التفجير فى بعض المواقع. ولاتزال معروضة أمام النيابة قضية الفتى الذى ارتدى قميصا (تى شيرت) كتبت عليه عبارة «وطن بلا تعذيب». وكانت تلك جريمته التى ساقته إلى السجن الذى أمضى فيه نحو ٥٠٠ يوم، ولا أحد يعرف مصيره الآن. ولا تقل عن ذلك غرابة قصة الكفيف الذى اتهم بأنه أدى دور القناص فأطلق الرصاص على أحد الضباط وأصابه. إلى آخر الممارسات العبثية التى باتت تتهم كل معارض بأنه خائن وعميل. وكل صاحب رأى آخر بأنه «إخوانجى» مرشح للإبادة. وهى الممارسات التى يغيب فيها المنطق والعقل ويهدر القانون والدستور. ولا نجد عنوانا جامعا لها سوى الاستباحة التى لا حدود لها.

صحيح أن تلك الممارسات فضحت كثيرين وكشفت عن انتهازيتهم وهشاشة معدنهم، كما أنها بينت المدى المخيف الذى بلغه تغول الأجهزة الأمنية، إلا أن عبثيتها تفتح الأبواب لشرور كثيرة. ذلك أن الأفعال العبثية تستدعى ردود أفعال من جنسها، حيث لا يستبعد أن يرد على العبث بعبث مماثل، الأمر الذى يدخلنا فى دوامة من الفوضى لا يعرف إلا الله وحده مداها أو عواقبها.

أفهم أنه لا بديل عن استمرار مواجهة الإرهاب. ودعوتى تنصب على عقلنة تلك المواجهة بحيث تظل فى حدود القانون والدستور، راجيا ألا تذهب اللوثة إلى حد العبث بالقانون ذاته لتغطية الممارسات المجنونة التى تشعل الحرائق ولا تطفئها وترتد سهاما تضرب المجتمع وتهدد السلم الأهلى.
ما يقلقنى فى الأمر أن مشكلة العقلنة تحتاج إلى عقل رشيد. وفى بعض الأحيان يتم التمادى فى العبث على نحو يثير الشك فى وجود ذلك العقل أو يفتح الباب للظن بأنه أعطى إجازة طويلة مفتوحة. لذلك لا مفر من أن «نعقلها» أولا ثم نتوكل.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

دعوة لعقلنة المواجهة دعوة لعقلنة المواجهة



GMT 14:47 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

حرب اعتزاز ومذكرة مشينة

GMT 14:46 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

شالوم ظريف والمصالحة

GMT 14:44 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

العدالة... ثم ماذا؟

GMT 14:42 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

لبنان وسؤال الاستقلال المُرّ

GMT 14:40 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

شاورما سورية سياسية مصرية

GMT 14:38 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الحضارة بين العلم والفلسفة أو التقنية والإدارة

GMT 14:01 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

استقرار لبنان... رهينة التفاوض بالنار

GMT 13:59 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

تغييرات في تفاصيل المشهد

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ المغرب اليوم

GMT 15:24 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

أفكار لتوزيع قطع الأثاث حول المدفأة
المغرب اليوم - أفكار لتوزيع قطع الأثاث حول المدفأة

GMT 21:05 2019 الجمعة ,06 أيلول / سبتمبر

تنتظرك أجواء هادئة خلال هذا الشهر

GMT 04:31 2017 الجمعة ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

قلة تناول "أوميغا 3" يؤدي إلى ضعف السلوك الاجتماعي

GMT 23:34 2024 الثلاثاء ,22 تشرين الأول / أكتوبر

الذهب يلامس قمة جديدة والفضة عند أعلى مستوى في 12 عاما

GMT 06:11 2017 السبت ,17 حزيران / يونيو

تعرف على توقعات أحوال الطقس في طنجة السبت

GMT 15:38 2014 الإثنين ,08 كانون الأول / ديسمبر

فوائد الحلاوة الطحينية

GMT 06:15 2017 الأربعاء ,25 كانون الثاني / يناير

شركات الأقمشة تطرح تصميماتها الرائعة من حرير "الدمسق"

GMT 18:40 2016 الثلاثاء ,13 كانون الأول / ديسمبر

عمرو أديب يستضيف إسلام البحيري بعد العفو الرئاسي عنه

GMT 18:34 2016 الإثنين ,18 كانون الثاني / يناير

فلويد مايويذر يقوم بجولة يزور خلالها 8 مدن إنجليزية

GMT 19:41 2016 الخميس ,08 كانون الأول / ديسمبر

تسرّب الماء الصالح للشرب في مدينة بركان المغربية

GMT 03:47 2017 الخميس ,05 تشرين الأول / أكتوبر

جيهان السادات تنفي تورط مبارك في اغتيال الرئيس الراحل
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib