لأجل تفكيك الإرهاب والنجاح فى التصدى له، لا بديل عن تجديد الخطابين السياسى والأمنى وفتح الأبواب للاجتهاد فيهما.
(١)
رسالة الإرهاب فى الأسبوع الثانى من شهر أبريل الحالى كانت افصح من سابقتها. إذ فى اليوم الثانى عشر من الشهر اقتحمت سيارة محملة بالمتفجرات قسم شرطة ثالث العريش، الأمر الذى أسفر عن سقوط ستة قتلى بينهم رئيس المباحث وإصابة خمسين شخصا حسب التصريحات الرسمية. وكان الجيش قد أعلن صبيحة اليوم ذاته ان ستة من أفراده استشهدوا وأصيب اثنان، جراء تدمير مدرعة كانت تقلهم.
بعد ذلك بيومين ــ فى ١٤ أبريل ــ وقعت عدة تفجيرات استهدفت أبراج الكهرباء فى مدينة ٦ أكتوبر بالقرب من القاهرة، منها ما أصاب برجين للضغط العالى فى منطقة المصانع، ومنها ما استهدف البرج الذى يغذى مدينة الإنتاج الإعلامى، الأمر الذى تسبب فى وقف بث عدة قنوات لبعض الوقت.
يوم ١٥ أبريل انفجرت قنبلة فى استاد كفر الشيخ، مما أدى إلى مصرع اثنين من طلبة الكلية الحربية وإصابة ٦ آخرين.
هذه الأحداث التى تتابعت خلال الأيام ١٢ و١٤ و١٥ أبريل، كان لها صداها السريع فى دوائر السلطة، ذلك أن الرئيس عبدالفتاح السيسى دعا إلى اجتماع حضره قادة الجيش والشرطة فى اليوم التالى مباشرة (١٦ أبريل) لمناقشة الموقف. وجاءت عناوين صحف الجمعة ١٧ أبريل معبرة عن أجواء الاجتماع وخلاصته. فكان العنوان الرئيسى لجريدة «الأهرام» كالتالى: مواجهة الإرهاب بقوة وحزم. أما جريدة «الشروق» فقد تحدث عنوانها الرئيسى عن: مجلس حرب على الإرهاب فى القصر الرئاسى. وهو ذات المعنى الذى عبر عنه عنوان جريدة «المصرى اليوم» حين ذكر ان: الملف الأمنى يسيطر على اجتماعات السيسى ومحلب. أما عناوين جريدة «الوطن» فقد كانت أكثر افصاحا، إذ جاءت كالتالى: السيسى غاضب من الأمن ــ الرئيس يبدى استياءه من التعامل الأمنى مع سلسلة التفجيرات الأخيرة ــ أهالى شهيدى الكلية الحربية: حاسبوا الذين قصروا فى حماية أولادنا.
(٢)
ما الذى يعنيه ذلك؟
لابد ان ننحى جانبا التعليقات الساذجة التى حاولت ان تصرف الانتباه عن حقيقة رسالة الإرهاب التى أقلقت رئيس الدولة ودفعته للمسارعة إلى عقد اجتماع مع القيادات الأمنية لمحاولة تدارك الموقف. إذ حين تقول افتتاحية جريدة محترمة انه فى كل هجوم خسيس يخسر الإرهاب وتكسب مصر، وحين يقول أحد المحللين الاستراتيجيين ان التفجيرات سوف تستمر طالما استمرت نجاحات الرئيس السياسى، فإننا نصبح إزاء محاولات للتدليس والضحك على عقول الناس، خصوصا ان أحدا لم يدلنا على الذى كسبته مصر من التفجيرات، فضلا عن ان هذا الكلام يريد اقناع الخلق بأن النجاحات التى تداعب أحلامهم هى التى تجلب إليهم كابوس الإرهاب وتفجيراته.
إن الموقف يستحق تفكيرا أفضل يتسم بالجدية والمسئولية. ذلك ان ما حدث حين يقع بعد مضى ٢٢ شهرا من المواجهات التى لم تتوقف مع مختلف مظاهر العنف والإرهاب فهو يعنى أن ثمة خطأ أو خللا ما أوصلنا إلى هذه النتيجة، وحين نفكر فى الموضوع فينبغى ان ننطلق من الإقرار بعدة أمور منها ما يلى:
● إننا لم نتعرف بعد على ملامح خريطة الإرهاب، و ازاء تعدد الجهات التى اتهمت بالضلوع فيه، فلم نعرف بالضبط من فعل ماذا. و لا ينسى فى هذا الصدد ان تفجير مديرية امن الدقهلية فى ٢٤ ديسمبر ٢٠١٤ اتهم فيه الاخوان و بناء عليه صدر قرار مجلس الوزراء باعتبارهم جماعة ارهابية فى اليوم التالى مباشرة، الا انه بعد يومين بثت جماعة انصار بيت المقدس بيانا و شريطا اكدا مسئوليتها عن الحادث.
● إن العمليات الإرهابية ليست مقصورة على مكان واحد. ولكنها تتحرك فى مختلف المحافظات. وما حدث فى الأسبوع الذى سبقت الإشارة إليه يشهد بذلك. فعملية العريش فى شمال سيناء أعقبتها عملية أخرى فى ضواحى القاهرة، ثم عملية ثالثة فى كفر الشيخ، بقلب الدلتا.
● إن سيناء بعد حظر التجول فيها و رغم إجراءات التمشيط والحملات العسكرية التى لم تتوقف فى البر والجو، لاتزال لغزا لم نستطع حله، و اشكالاً لم نستطع حسمه، ومن الواضح أن كل الإجراءات الأمنية على شدتها وقسوتها لم تفشل فى القضاء على الإرهاب، فقط، وانما خلفت من الدمار والضحايا بأكثر مما حققت من الأمن والسلام. وهو ما حول سيناء إلى جرح كبير ووجع مزمن جعل أرض الفيروز أرضا للاحزان.
● انه لا يوجد أفق خارج النطاق الأمنى للتعامل مع المشكلة. وإذا كان اجتماع الرئيس السيسى مع القيادات الأمنية دون غيرها فى أعقاب الأسبوع الدامى له دلالته فى هذا الصدد، إلا أن الدلالة الأكبر تمثلت فى صدور قانون الكيانات الإرهابية فى منتصف شهر فبراير الماضى. وسبقه فى أكتوبر من العام الماضى إصدار القانون الذى اعتبر المنشآت الحيوية منشآت عسكرية. وصياغة القانون الأول تسمح باستباحة بأى مواطن باعتباره كيانا إرهابيا (إذا اتهم بالإضرار بالبيئة أو السلام الاجتماعى أو النظام العام). أما الثانى فإنه يحول محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكرى من استثناء مكروه إلى قاعدة مستقرة، لا نستطيع لها ردا ولا نقضا.
(٣)
إذا أقررنا بما سبق، وسلمنا بحقيقة ان السياسات المتبعة لم تنجح فى القضاء على الإرهاب، وإذا أردنا أن نحصل على نتيجة مختلفة عما شهدناه ولمسناه، فينبغى أن نفكر بطريقة مختلفة، وتلك مغامرة كبرى. لأننا فى هذه الحالة سوف نصطدم بمفاجأة لا تخطر على البال. إذ سنكتشف أن باب الاجتهاد فى هذا الموضوع بالذات مغلق ولا سبيل إلى فتحه. ليس ذلك فحسب، وانما سوف تتعرض أى محاولة من ذلك القبيل للتشهير والتجريح والاتهام. وذلك أمر لا يخلو من مفارقة. ذلك انه فى حين تعلو الأصوات وتشن الحملات داعية إلى تنقيح ومراجعة كتب التراث، باسم التجديد الدينى، ويفسح المجال لكل من هب ودب لتسفيه آراء أئمة كبار وعلماء أجلاء مثل ابن تيمية والبخارى وأبوهريرة وغيرهم، فإن الباحث فى زماننا لا يجرؤ على المطالبة بمناقشة أو نقد تقارير ضباط جهاز أمن الدولة. وهى التى باتت تقدم باعتبارها مسلمات تنبنى عليها قرارات بإعدام مئات وسجن ألوف وتضييع مستقبل شباب كل جريمتهم انهم اعترضوا على بعض القوانين الظالمة. وإذ يحتج فى رد مقولات الأئمة الكبار بأنهم رجال ونحن رجال ــ وذلك صحيح لا ريب إذا تساوت المعارف والمقامات ــ فإن تقارير الأجهزة الأمنية تضفى عليها قداسة لا تسمح بردها، باعتبارها تقارير «سيادية» أصدرها من لا نعرف ولا يسأل عما يفعل. وتكون الخلاصة فى نهاية المطاف ان الباب مفتوح على مصراعيه للتهريج باسم الخطاب الدينى، لكنه مغلق أمام اى مراجعة او مناقشة موضوعية للخطابين السياسى والأمنى. وسنجد مثقفين وسياسيين وإعلاميين يهللون للعبث بالخطاب الدينى، فى حين يقفون بمنتهى الخشوع والاحتشام والانصياع أمام مفارقات الخطابين السياسى والأمنى. ولابد أن تدهشنا وتعقد ألسنتنا فى هذه الحالة تلك الجرأة التى يخوض بها البعض فى الخطاب الأول، إذا ما قورنت بالتقديس والتسليم الذى يعامل به الخطاب الثانى.
فى هذا الصدد لا مفر من الاعتراف بأن منابر التعبير وتشكيل الرأى العام فى مصر ــ أغلبها ان لم تكن كلها ــ خاضعة لنفوذ الأجهزة الأمنية وإدارات التوجيه المعنوى. وهو ما كشفته عنه بعض التسريبات التى جرى بثها، وسمعنا فيها بآذاننا كيف تتم هذه المسألة فى وسائل الإعلام بصورة يومية. وكيف تعالج مختلف القضايا العامة على النحو الذى يخدم الخط السياسى والاعتبارات الأمنية. اضافة الى ذلك، فمما لاشك فيه ان الاستقطاب الحاصل فى المجتمع ألغى إلى حد كبير إسهام المثقفين والسياسيين فى التناول الموضوعى والمستقل لمختلف القضايا المطروحة، الأمر الذى أخرجهم من دائرة الاجتهاد المنشود. ذلك ان أغلب هؤلاء فقدوا حيادهم وانخرطوا فى الانتصار للخطابين السياسى والأمنى حتى فى تضييقه على الحريات العامة وانتهاكاته لحقوق الإنسان. صحيح ان ذلك لا يخلو من ايجابية، من حيث انه كشف عن الوجه الحقيقى للعديد من الرموز السياسية والتى حسبناها وطنية مستقلة، إلا أن ذلك كان على حساب أهداف الثورة وتطلعاتها.
(٤)
وحده اطلاق الحريات العامة و فتح باب الاجتهاد فى تحليل ظاهرة الإرهاب هو الذى يوفر الإجابة الصحيحة على العديد من الأسئلة المعلقة فى الفضاء، والتى لم نتلق لها إجابة مقنعة طوال الاثنين والعشرين شهرا التى مضت، من هذه الأسئلة ما يلى:
● لماذا تغيب السياسة عن معالجة القضايا الراهنة. ولماذا ينفرد الأمن بتقرير مصير الأحداث فى مصر؟
● هل هناك تصور لحل أزمة الاستقطاب والاحتقان السياسى فى البلاد؟ وإذا كان ذلك التصور موجودا فمن الذى وضعه ولماذا لا يشترك المجتمع فى الاطلاع عليه ومناقشته؟
● إلى أى مدى أسهمت السياسات الأمنية فى إشاعة التوتر والنزوع إلى العنف والثأر. و من ثم شكلت تربة مواتية لتصاعد مؤشرات الارهاب.
● لماذا يلاحق ويتهم الإرهاب الذى تمارسه الجماعات ويغض الطرف عن العنف الذى تمارسه الأجهزة الأمنية ويحصن الضالعون فيه؟
● ما هى الجماعات التى تمارس الإرهاب فى مصر، وهل هى جماعة واحدة تدير العملية، أم أنها جماعات عدة تختلف أساليبها وأهدافها؟ وإذا كان هناك عقل واحد يدير ويخطط كما يذهب البعض، فبماذا يفسر التفاوت الشديد فى مستوى الأداء، بين عمليات بالغة التعقيد وشديدة الإحكام والكفاءة تمارس فى سيناء مثلا، وبين قنابل بدائية ومخططات ساذجة تنفذ فى القاهرة والمحافظات الأخرى.
● لماذا فشلت الجهود العسكرية فى القضاء على الإرهاب فى سيناء؟ وبماذا يفسر اتجاه أنصار بيت المقدس إلى ارتكاب عمليات إرهابية فى أنحاء مصر، فى حين أنها حصرت جهدها فى الماضى فى محاولة التصدى لإسرائيل ومخططاتها؟ وما هى طبيعة التفاهمات المصرية ــ الإسرائىلية حول إجراءات مواجهة الإرهاب فى سيناء؟
● هل مخابرات الدول الكبرى ضالعة حقا فى مؤامرة إشاعة عدم الاستقرار فى مصر، وإذا صح ذلك كما ذكرت الصحف المصرية فيما نقلته عن المصادر السيادية، فكيف استقبلت القاهرة مدير المخابرات المركزية الأمريكية، وهى التى تحتل رأس أولئك الذين اتهموا بالتآمر على النظام القائم؟
● ما مدى نسبة الافتعال فى القضايا المعروضة على المحاكم التى بسببها تم الزج بمئات المهتمين فى كل قضية؟
● كم عدد المعتقلين السياسيين الذين يجرى التمديد لاحتجازهم منذ أكثر من عام، دون أن يقدموا إلى التحقيق أو يعرضوا على أى محكمة؟
● لماذا لم يتحقق وعد الرئيس عبدالفتاح السيسى الذى كرره أكثر من مرة منذ شهر يناير الماضى بإطلاق سراح الأبرياء والمظلومين الذين كانوا ضحايا حملات التمشيط والاعتقال العشوائى؟
لن نستطيع ان نتصدى بشكل جاد للإرهاب إلا إذا قمنا بتفكيك الظاهرة، وفتح باب الاجتهاد فى الموضوع، والكف عن إرهاب وتوزيع الاتهام بالتآمر والأخونة والخيانة لكل من حاول ان يقول رأيا يختلف عن الصياغات الامنية المقررة لتجاوز أزمة السياسة فى مصر، أخطأ فى ذلك أم أصاب.