فهمي هويدي
هذا خبر سار ومحزن فى ذات الوقت. إذ لابد أن يسرنا قرار محكمة استئناف القاهرة بإلغاء الحكم الذى صدر فى أواخر فبراير الماضى باعتبار حماس تنظيما إرهابيا. إلا أن ذلك السرور لا يخفى حزنا دفينا إزاء المدى الذى وصلنا إليه فى تقييم أهم حركة مقاومة فى العالم العربى الآن، بحيث صرنا نسأل هل هى إرهابية أم لا؟!. ولست أشك فى أنها مجرد مصادفة. أن يعلن قرار المحكمة المصرية يوم السادس من يونيو، بذكراه الموجعة والمخزية، حين نلقى الحلم العربى الطعنة النجلاء التى أسفرت عن هزيمة ١٩٦٧ والزلزال الذى ترددت أصداؤه فى كل أنحاء العالم العربى.
لا أعرف إلى أى مدى يمكن أن يؤثر حكم «البراءة» الصادر فى علاقة القاهرة بحركة حماس، لكننى على يقين من أن القرار طوى صفحة أساءت كثيرا إلى مصر وشوهت صورتها بغير مبرر، فأضرت بالسياسة وسحبت الكثير من رصيد القضاء. إذ وجدت إحدى محاكمه يوما ما مسوغا لاعتبار حماس تنظيما إرهابيا فى حين أحجمت محكمة أخرى عن أن تفعلها بالنسبة لإسرائيل، وحكمت بعدم الاختصاص بالموضوع.
حفاوتنا بتصحيح الخطأ الذى وقعت فيه محكمة الدرجة الأولى، لا تعنى أن انفراجا حدث فى علاقة القاهرة بحماس، لأن أثر القرار إلى جانب أنه محا أثر خدش شوه وجه مصر فإنه طوى صفحة واحدة فى سجل شائك صار مسكونا بالعديد من الحساسيات والعقد. ذلك أن أحدا لا يستطيع أن ينكر أن ظروفا عدة عكرت مسار العلاقة بين القاهرة وحماس بحيث لم تتدهور تلك العلاقة ووصلت إلى حد القطيعة فحسب، وإنما أصبح البعض مستعدا لتقبل خيار قيام مصر بعمل عسكرى ضد حماس فى غزة. وليس ذلك مجرد استنتاج لأن ملعوماتى أن سفير إحدى الدول الكبرى لدى القاهرة وجه سؤالا حول إمكانية وقوع ذلك الاحتمال، وأنه تلقى ردا خلاصته أن ذلك لم يعد مستبعدا.
لقد صار معلوما للكافة أن إسقاط حكم الإخوان فى مصر كان بداية تدهور العلاقات مع حماس، وأن بعض العمليات الإرهابية النوعية التى حدثت فى سيناء وفى بعض المدن امصرية، اتسمت بدرجة عالية من الكفاءة أقنعت الجهات الأمنية بأن يدا خارجية أسهمت فيها. وفى هذا السياق جرت الإشارة إلى دور الأنفاق وخبرات كتائب القسام الجناح العسكرى لحماس. هذه التوترات التى حدثت فى البداية كانت بمثابة هدية ثمينة للأجهزة الأمنية المصرية التى أشارت إليها أصابع الاتهام فى المسئولية عن قتل وقنص شباب ثورة يناير ٢٠١١، إلى جانب بعض مظاهر الفوضى التى سادت آنذاك (فتح السجون مثلا). ذلك أن تلك الأجهزة سارعت إلى إلقاء التهمة على عناصر حماس، ليس فقط لأن الأجواء السياسية كانت مواتية لذلك، ولكن لكى تغسل الشرطة أيديها من دماء شباب الثورة التى سالت، حدث ذلك رغم أن لجنة تقصى حقائق تلك المرحلة لم تشر إلى أى دور لحماس فيما جرى، ورغم ان القيادات العسكرية التى كانت قائمة على الأمر فى سيناء قررت أنها لم تشهد أى تحرك غير عادى من جانب حماس عبر الأنفاق فى تلك الفترة. وهو ما أيدته الاستخبارات الإسرائيلية الراصدة لما يجرى على الحدود. ولم يعد سرا أن جهودا أخرى موازية بذلت للدس والوقيعة بين القاهرة وحماس. وهذه الجهود أسهمت فيها عناصر مخابرات السلطة فى رام الله، التى لم تتجاوز خصومتها للحركة ولم تنس لها انفرادها بالسلطة والقرار فى القطاع منذ عام ٢٠٠٧.
فى الملف كلام كثير أكدته الأجهزة الأمنية المصرية ونفته حماس، وفى الأجواء المحتقنة الراهنة أصبح من الصعب تحرى الحقيقة فى وقائعه. لكن الذى دفع الثمن وكان ضحية لذلك التجاذب هو شعب القطاع الذى قارب المليونى نسمة وعانى من حصار بالغ القسوة جراء إغلاق معبر رفح، المنفذ الوحيد للفلسطينيين الذى لا يمر بإسرائيل. وإذا كانت إسرائيل قد أسعدها تدمير الأنفاق التى كانت تمر منها الاحتياجات المعيشية لسكان القطاع، لأن البضائع الإسرائيلية صارت البديل الوحيد الذى احتكر أسواقه، إلا أن مصالح فلسطينيى القطاع أصيبت بالشلل، سواء كانوا دارسين أو مرضى أو عاملين بالخارج.
خنق القطاع على ذلك النحو عطل الإعمار ودمر حياة الناس وسرّب اليأس إلى صفوف المرضى وأصحاب المصالح، الأمر الذى أشاع حالة من الإحباط والتمرد فتحت الأبواب لتنامى ظاهرة التطرف الذى مثلته عناصر السلفية الجهادية وأنصار داعش. وهى المشكلة التى تعانى منها حماس الآن، خصوصا بعدما دخلت فى صدام مسلح مع تلك العناصر تكرر أكثر من مرة هذا العام. ومن المفارقات ان إسرائيل المخاصمة لحماس لاحظت تنامى إقبال الشباب على السلفية الجهادية. وصارت تتخوف من أن ينتهى الأمر بحدوث انفجار فى القطاع يكون لصالح تلك الجماعات. وهو احتمال لا أظنه غائبا عن الأجهزة المصرية.
إغلاق معبر رفح وضعنا أمام مفارقة محزنة تبنت فيها السياسة موقفا مناقضا للثوابت. ذلك أن السياسة أدت إلى إذلال وتدمير حياة مليونى مواطن فى فلسطين فى حين أن الدفاع عن فلسطين والفلسطينيين من الثوابت المستقرة فى مصر. لقد صحح القضاء خطأ اعتبار حماس منظمة إرهابية، وبقى أن تصحح السياسة خطأ إغلاق معبر رفح لحصار الفلسطينيين فتلك ليست إهانة لهم فقط، لكنها إهانة للثوابت المصرية أيضا.