فهمي هويدي
- فى مذبحة متحف باردو بتونس رأينا بشاعة الإرهاب لكن دور السياسة لم يستوقفنا
(1)
فى 21 مارس عام 2012 نشرت صحيفة لوموند الفرنسية تصريحات للسيد على العريض وزير الداخلية آنذاك والقيادى فى حركة النهضة ذكر فيها أن السلفية الجهادية تمثل أكبر خطر على تونس. وفى نفس الشهر عام 2015 الحالى ارتكب بعض عناصر السلفية الجهادية جريمتهم التى أسفرت عن قتل أكثر من 20 شخصا بينهم 17 سائحا كانوا فى زيارة متحف باردو، فى واقعة هى الأكبر من نوعها منذ حصلت تونس على استقلالها فى عام 1956. وبما فعلوه فإنهم وجهوا ضربة موجعة للاقتصاد التونسى التى تعد السياحة أحد أهم المصادر التى يعتمد عليها. وخلال السنوات الثلاث، بين عامى 2012، 2015. لم يتوقف الصراع بين الأمن التونسى وبين المجموعات الإرهابية التى لم تتوقف عملياتها سواء على الحدود ــ مع الجزائر بوجه أخص ــ أو فى قلب العاصمة.
فى عام 2012 شنوا هجوما فاشلا على السفارة الأمريكية فى العاصمة تونس، أدى إلى قتل أربعة أشخاص وإصابة أكثر من مائة آخرين بجراح. فى عام 2013 قتلوا على التوالى اثنين من زعماء المعارضة العلمانية واليسارية. أحدهما شكرى بلعبد الذى بسبب مصرعه استقالت حكومة حمادى الجبالى الأمين العام لحركة النهضة. وعين على العريض رئيسا للحكومة بدلا منه، وفى الحكومة الجديدة تخلت حركة النهضة عن بعض وزارات السيادة التى كان يشغلها ممثلوها. الثانى محمد البراهمى، وهو أيضا من زعماء المعارضة، الأمر الذى ترتب عليه استقالة حكومة على العريض وخروج حركة النهضة من الحكومة، ومن ثم تم تشكيل حكومة غير حزبية (تكنوقراط) برئاسة مهدى جمعة. فى عام 2014 هاجمت العناصر الإرهابية قوات الحكومة فى منطقة جبل الشعانبى المجاورة للحدود مع الجزائر، فقتلت 14 جنديا وأصابت 18 آخرين. وكانت تلك ضربة موجعة اهتزت لها تونس وجرى احتواؤها باستقالة رئيس أركان جيش البر الجنرال محمد صالح الحامدى من منصبه. وإذا لم يستجد شىء ــ وهو ما نرجوه ــ فإن مذبحة متحف باردو ستظل الحادث الإرهابى الأبرز فى عام 2015.
(2)
ما حدث فى تونس يعيد إلى أذهاننا مسلسل الجرائم التى قامت بها فى سيناء عناصر السلفية الجهادية، وكان ضحاياها بضع عشرات من جنود الجيش والشرطة. إلا أن الصدى السياسى اختلف فى البلدين، إذ فى حين أدت حوادث تونس إلى إسقاط حكومتين وإحداث تغير فى قيادة جيش البر، فإن ما جرى فى سيناء مصر لم يكن له صدى يذكر فى هيكل السلطة السياسية أو أداء الحكومة.
رغم فداحة الجريمة التى وقعت فى متحف باردو، فإن ماكينة السياسة تحركت بسرعة لمواجهة الموقف. إذ عقد الرئيس باجى قايد السبسى لقاء مع قادة الأحزاب السياسية لمناقشة الحدث، كما أنه رأس اجتماعا للحكومة، وفى مساء اليوم ذاته خصص البرلمان جلسته لدراسة كيفية مواجهة الموقف، فى حين أن رئيس الوزراء اعترف بأن التقصير الأمنى كان له دوره فى تيسير ارتكاب الجريمة. وبالتوازى مع هذه التحركات السياسية دعى مجلس الأمن الوطنى للانعقاد وكذلك المجلس الأعلى للجيوش التونسية، كما كانت الأجهزة الأمنية تؤدى دورها سواء فى ملاحقة المتهمين أو التحقيق مع المشتبهين الذين لم يتجاوز عددهم 20 شخصا. إن شئت فقل ان السياسة تحركت جنبا إلى جنب مع الأمن لمواجهة الموقف. وتحرك السياسة يفترض أن تجسده التظاهرة الكبرى التى يفترض أن تنطلق يوم الأحد المقبل تعبيرا عن الرفض الشعبى للإرهاب وممارساته. وأهمية ذلك الاحتشاد تكمن فى رمزيته، باعتبار أنه يضم جميع التيارات والقوى السياسية بتنويعاتها المختلفة. وحين تشارك حركة النهضة فى التظاهرة ممثلة لما يسمى بالإسلام السياسى وباعتبارها الكتلة الثانية فى البرلمان بعد حزب «النداء» فإن ذلك يزيل الالتباس الذى يروج له البعض بخصوص العلاقة بين حركة النهضة وعموم الدعوة السلفية فى تونس. والحق ان الصورة واضحة والمسافة محسومة بين الطرفين فى الفضاء التونسى. وهو ما عبرت عنه تصريحات القيادى فى حركة النهضة على العريض لجريدة لوموند التى سبقت الإشارة إليها. علما بأن تباين المواقف بينهما، الذى يصل إلى حد التصادم والاشتباك، أشد وضوحا فى مواقع السلفيين على شبكة التواصل الاجتماعى، إلا أن أغلب منابر الإعلام المصرى ترفض رؤية ذلك التباين، إذ لأسباب سياسية وثيقة الصلة بحدَّة الاستقطاب الحاصل فى مصر، فإنها تتورط فى الخلط بين مكونات الإسلام السياسى، وترفض رؤية أى تمايزات بينها، رغم الأهمية البالغة لذلك فى أى تحليل سياسى محايد أو بحث موضوعى نزيه.
(3)
هذا التخليط ينطلق من الادعاء بأن الإسلام السياسى شىء واحد، وان الكلام عن الاحتواء والدعوة إلى توسيع نطاق المشاركة لتشمل كل الأطياف بمثابة مصالحة مع الإرهاب وتستر عليه. وأصحاب هذا الرأى يستدلون بتجربة تونس ويعتبرونها شاهدا على صواب رؤيتهم. والحل الذى يطرحه هؤلاء يدعو فى النهاية إلى شطب الإسلام السياسى وإخراجه من المعادلة، إعمالا للمقولة التى ترى أن الباب الذى يأتيك منه الريح يتعين عليك أن تغلقه كى تهدأ بالا وتستريح.
هذا التحليل مسكون بالتغليط فى منهجه، ثم إن الاستدلال بالحالة التونسية فيه يجعله غارقا فى التغليط. فهو من الناحية المنهجية يحاكم التجربة التونسية بمعيار الخبرة المصرية، ناهيك عن أنه يقرأ التجربة المصرية بمنظور السنوات الأربع الأخيرة وبحسابات الاستقطاب الراهنة. والشق الأول هو الذى يهمنا فى السياق الذى نحن بصدده نظرا لخصوصية التجربة التونسية التى تبنت منذ الاستقلال فى خمسينيات القرن الماضى نموذجا تغريبيا وعلمانيا واضحا. وفى علمانيته فإن النموذج الذى فرضه الرئيس بورقيبة طوال حكمه الذى استمر ثلاثين عاما (من 1957 إلى 1987) أخذ عن العلمانية الفرنسية نفورها من الدين وعزوفها عنه. وهو ذات المسار الذى سار عليه خلفه الرئيس بن على، وتأثرت به بعض شرائح النخبة التى انساقت فى مسار التغريب والعلمنة. وبسبب ذلك النفور فإن النظام الحاكم فى تونس منذ الاستقلال ظل على علاقة متوترة مع مجمل التوجه الإسلامى الأمر الذى أدى إلى العصف بجامعة الزيتونة أولى جامعات العالم الإسلامى (سابقة على الأزهر) وإغلاق معاهدها. بعد الاستقلال.
فى الوقت الذى تبنى النظام التونسى نموذج التغريب والعلمنة، فإنه لم يحاصر التوجهات الإسلامية فحسب، وإنما فتح الأبواب واسعة للتيارات العلمانية والاتجاهات الماركسية والاشتراكية، وفى عهد بن على جرى الانفتاح على إيران والترحيب بالمذهب الجعفرى الاثنى عشرى. وفى تلك الأجواء فإن دفاع المجتمع التونسى المتدين والمحافظ عن نفسه تمثل فى ظهور حركة الاتجاه الإسلامى التى حملت اسم «النهضة» لاحقا (جرى إشهارها رسميا فى عام 1981)، كما تمثل فى انتشار الطرق الصوفية والدعوة السلفية. ولأن حركة الاتجاه الإسلامى تبنت مشروعا فكريا بديلا فإن النظام فى عهديه ظل مشتبكا معها طول الوقت. الأمر الذى عرض أعضاءها للاعتقال والاتهام بالشروع فى قلب نظم الحكم (الشيخ راشد الغنوشى رئيس الحركة الحالى حكم عليه بالسجن المؤبد). فمنهم من أودع السجون ومنهم من نفى إلى الخارج، حيث لجأ أغلبهم إلى إنجلترا وفرنسا. وفى غياب حركة النهضة عن المشهد السياسى ووجود قادتها بالخارج طيلة عشرين عاما تقريبا، تمددت الحركة السلفية والطرق الصوفية، ورغم توتر علاقاتهما بالنظام الحاكم إلا أن الاشتباك معه كان أقل شراسة. أغلب الظن لأن الأجهزة الأمنية ارتأت أن نشاطات هؤلاء لا تمثل تهديدا للنظام، فضلا عن ان استمرار وجودها فى الساحة قد يسحب البساط من تحت أقدام حركة النهضة.
(4)
حين عاد قادة حركة النهضة من المنافى بعد الثورة (عام 2011) وتم الاعتراف بها كحزب سياسى له شرعيته، كان السلفيون والمتصوفة قد حققوا انتشارا ملحوظا فى الساحة التونسية، وكان الأولون أكثر نشاطا بين الشباب، خصوصا ان امكانيات كثيرة توفرت لهم نظرا لتعدد مصادر تمويلهم وتنوع أنشطتهم فى المجالين الخدمى والدعوى. ساعدهم على ذلك أنهم استطاعوا السيطرة على عدد غير قليل من المساجد إضافة إلى اهتمام عناصرهم بالانتشار عبر شبكة التواصل الاجتماعى ذات الحضور القوى فى المجتمع التونسى.
لم يكن ذلك هو التغير الوحيد. لأن الجغرافيا شاءت ان تحشر تونس بين أكبر مصدرين للعنف والتطرف فى المغرب العربى، أعنى بذلك الجزائر التى تعشش فيها الجماعات المسلحة منذ التسعينيات، حين ألغى الجيش المسار الديمقراطى، فظهر العنف بديلا للتغيير. أعنى أيضا ليبيا التى أغرق القذافى صحراءها الممتدة بالسلاح أثناء الثورة التى انفجرت ضده. والبلدان مفتوحان على مناطق مسكونة بالتوتر والتمرد. فى مقدمتها تشاد والنيجر ومالى.
هذه الأجواء شكلت بيئة مواتية لاستقبال أفكار السلفية الجهادية والقاعدة فى بلاد المغرب الغربى وجماعة داعش، الذين شكلوا أحدث نسخة فى ثقافة العنف وبشاعته. يساعد على ذلك ان حزام العنف الذى يحيط بتونس من الجانبين الليبى والجزائرى يمتد بطول آلاف الكيلومترات التى تتخللها مساحات هائلة من الصحارى المليئة بالدروب التى يتعذر ضبطها أو السيطرة عليها، خصوصا فى ظل القدرات العسكرية المحدودة لدى تونس التى لم تضع فى الحسبان مواجهة من ذلك القبيل مع جماعات العنف والإرهاب.
هذا الذى ذكرت أخلص منه إلى نتيجتين. الأولى ان الإشارات التى كررها البعض فى وسائل الإعلام المصرى وتحدثت عن العنف والإرهاب فى تونس خرج من عباءة حركة النهضة والإسلام السياسى، لا أصل لها ولا دليل عليها. لأن المسارين يختلفان تماما ولا وجه للالتقاء بينهما. وإذا أراد البعض ان يبنى على ذلك الادعاء بأن الجميع إرهابيون وليس هناك معتدل يراهن عليه وإرهابى نخاصمه، فذلك لا يعنى سوى إنكار حقائق الواقع ودفن الرءوس فى الرمال وليس أمام الشباب الناشط سوى أن يلتحق بالقاعدة أو داعش إذا أراد أن يكون ايجابيا وفاعلا.
النتيجة الثانية ان الإرهاب لا مستقبل له فى تونس. أولا لأن أمام الإسلاميين الراغبين فى التغيير بديلا سلميا وشرعيا يمكن ان يطرقوا بابه، ويبلغوا المجتمع من خلاله وان يحصدوا ثمار جهدهم عبر صناديق الانتخاب. وثانيا لأن هناك إجماعا وطنيا على نبذ الإرهاب، رغم كل الخلافات الفكرية بين القوى والتيارات الفاعلة. وهذه الخلافات مهما بلغت فإنها لم تبلغ حد الدعوة إلى الإقصاء وانما جرى الاتفاق بينها على الاحتكام إلى الصندوق فى نهاية المطاف. ثالثا وأخيرا لأن البلد تديره السياسة وليس الأمن، ولأن فيه أحزابا وبرلمانا وانتخابات حرة فالسياسة فيه لم تمت، والأمل فى المستقبل لم يمت أيضا.