فهمي هويدي
بين أيدينا الآن شهادتان متناقضتان بشأن الأوضاع فى سجن العقرب الذى يوحى اسمه بما لا يسر أو يطمئن. الأولى صدرت عن المجلس القومى لحقوق الإنسان فى مصر أعلنها فى مؤتمر صحفى عقده يوم ٢٧ أغسطس الماضى وكانت فى صالح السجن ووزارة الداخلية. حيث فهمنا منها أن الأمور تسير هناك بصورة عادية لا مخالفة فيها ولا مؤاخذات، فحقوق النزلاء محفوظة والرعاية الطبية مكفولة وكل شىء على ما يرام. الشهادة الثانية لها مصدران، أحدهما الأستاذ محمد عبدالقدوس عضو المجلس الذى كان ضمن الوفد الثلاثى الذى زار السجن وأصدر بيانا فى ٢٨/٨ نقض فيه ما ذكر فى المؤتمر الصحفى، وشكك فى صحة المعلومات التى أعلنت. المصدر الآخر هو اللقاء الذى دعت إليه مؤسسة حرية الفكر والتعبير يوم ٢ سبتمبر، وهى منظمة حقوقية تعمل فى ظل القانون. وكان عنوان اللقاء هو: اسمعوا منهم. إذ دعت بعض أمهات وأهالى المسجونين، وطلبت منهم ان يدلوا بشهاداتهم ويخبروا الحاضرين بانطباعاتهم ومعلوماتهم عن أوضاع ابنائهم. وكانت حصيلة الشهادات معاكسة تماما لما أعلن فى مؤتمر اللجنة الممثلة للمجلس القومى. وفى حين جاء بيان محمد عبدالقدوس مشككا فى معلومات ومواقف تقرير المجلس فإن كلام الأمهات ذهب إلى أبعد، حتى بدا تكذيبا لتلك المعلومات. حتى أن من يتابع الحدثين يجد أن بيان المجلس القومى صور سجن العقرب بأنه أقرب إلى الفندق أو المنتجع فى حين أن كلام الأمهات صوره باعتباره فى منزلة بين المسلخ والمقبرة.
لا يغيب عن البال أن المجلس القومى معين من قبل الحكومة وان مجاملته لها أمر قد يكون مفهوما، ولكن هناك فرقا بين المجاملة وبين قلب الحقائق، خصوصا حين يتعلق الأمر بكرامات البشر وحقوق الإنسان. كما اننا نستطيع ان نتفهم مشاعر الأمهات والزوجات حين يرون ذويهن أثناء المحاكمات أو أثناء الزيارات الخاطفة، الأمر الذى يبرر مشاعر الصدمة ويبرر الجنوح إلى المبالغة. وإذا صح ذلك فإنه يضعنا أمام مبالغتين. مبالغة المجلس القومى فى مجاملة الحكومة، ومبالغة الأمهات والزوجات فى تصوير معاناة ذويهن، وبين هذه وتلك تتوه الحقيقة ويتعذر علينا أن نكون رأيا منصفا وموضوعيا. وحين يحدث ذلك فإن الباب يتفتح على مصراعيه للبلبلة والشائعات وسوء الظن. وفى هذه الحالة فإن المسألة لا تكون مقصورة على سجن العقرب ونزلائه، لأن الأمر وثيق الصلة بقضية حقوق الإنسان التى باتت محل لغط كثير ليس فى مصر وحدها وإنما فى المحافل الدولية أيضا.
ولعلها إلى جانب قضية الديمقراطية تشكلان أهم مصادر تجريح النظام القائم، ناهيك عن انهما يستخدمان ضمن الشواهد الدالة على إجهاض ثورة ٢٠١١، وعودة سيات النظام القديم التى فجرت الثورة.
ما عاد سرا أن المجلس القومى لحقوق الإنسان لم يعد محل ثقة الكثيرين، والفجوة صارت واسعة للغاية بين ذلك المجلس المعين وبين المنظمات الحقوقية المستقلة، حتى صار الطرفان يقفان على طرفى نقيض. وعزز الشكوك ان وزارة الداخلية دأبت على استخدام المجلس فى محاولة تحسين صورتها وتبرير سياساتها. وحين قامت الوزارة بتصوير الزيارة الأخيرة خلافا لما هو متفق عليه ثم استخدمت الشريط المصور للدعاية للداخلية، فإنها وضعت المجلس فى موضع التابع لإدارة العلاقات العامة بالوزارة وقوضت ما تبقى له من سمعة.
التفكير المحايد فى الموضوع الذى يسعى إلى الإنصاف وإظهار الحقيقة يدعونا إلى البحث عن صيغة أو إطار لتحرى الأمر بعيدا عن تحيزات المجلس القومى أو انفعالات الأمهات وآراء المتضررين. ويخطر لى فى الصدد أن أدعو إلى تشكيل لجنة مستقلة تمثل فيها نقابتا الأطباء والمحامين وتضم ممثلين عن المنظمات الحقوقية المستقلة، لكى تستمع إلى وجهات نظر أطراف الموضوع، وتقوم بزيارة سجن العقرب وغيره من السجون والنزلاء فى زنازينهم وليس فى غرف الاستقبال وفى ظل رقابة ضباط الأمن. وإذا أعطيت الحرية لهؤلاء لكى يتقصوا الحقائق داخل السجون وخارجها، فسيكون بوسعنا أن نطمئن إلى خلاصة جهودهم. وبغير ذلك فإن الشبهات والشكوك ستستمر، والمرارات والأحزان ستتراكم، ولن نتوقع خيرا بعد ذلك.
فى أوساط الحقوقيين والمعنيين بالأمر إن ما يحدث فى السجون من قهر أو تنكيل ليس إجراءات يباشرها رجال الشرطة من أنفسهم، ولكنها سياسات للنظام تترجم فى كل قطاع بأدواته. وإذ أثبتت التجربة أن ذلك نظر صائب وتقييم صحيح فإن المشكلة لن تكون فى تشكيل لجنة بالمواصفات التى ذكرتها، ولكنها ستتمثل فى القرار السياسى الذى يحدد الوجهة ويرسم المسار ويحدد جهات التنفيذ. وإذا صح ذلك فإننا لا ينبغى أن نخاطب الداخلية وحدها، ولكننا سنصبح مدعوين لأن نرفع السقف بعض الشىء، لكى نخاطب الجهات الأعلى التى ترسم السياسات التى تتولى الداخلية تنفيذها. وأرجو ألا يسألنى أحد عن العنوان الصحيح فى هذه الحالة.