حين رفض القضاء الإدارى دعوى التعويض التى رفعها الناشط المعروف أحمد حرارة الذى فقد عينيه أثناء مظاهرات ثورة ٢٠١١ فى مصر، فإن سبب الرفض كان أكبر بكثير مما ورد فى حيثيات الحكم. ذلك أنه فى الظروف الطبيعية حين يفقد الطبيب الشاب عينيه فى المظاهرات التى أسقطت نظام مبارك، فمن حقه أن يعوض عن ذلك فى ظل النظام الذى جاءت به الثورة. خصوصا أنه ليس مصابا عاديا والثمن الذى دفعه كان باهظا للغاية. لأنه أنهى حياة طبيب الأسنان الشاب، وأغلق طريق المستقبل أمامه. إلا أن الأمر ليس بهذه البساطة. لأنه أكثر حساسية وتعقيدا.
لقد اختصم أحمد حرارة كلا من رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ووزير الداخلية مطالبا بتعويضه عن فقد عينيه نتيجة استخدام قوات الأمن الطلقات المطاطية والخرطوش فى فض المظاهرات التى شارك فيها بتاريخى ٢٨ يناير (يوم جمعة الغضب) و١٩ نوفمبر عام ٢٠١١. وأضاف فى دعواه أنه حين فقد عينه اليمنى يوم ٢٨ يناير فإن طبيبه المعالج أبلغه بأن حجم الخرطوش الذى أصابه يبلغ خمسة أضعاف الحجم العادى، ما يعنى أن الشرطة استخدمت ضد المتظاهرين نوعية فتاكة من الخرطوش. وفى حيثيات قرار محكمة القضاء الإدارى برفض الدعوى ذكرت المحكمة أن القانون الصادر عام ٢٠١٢ بتعويض ورثة شهداء ومصابى ثورة ٢٥ يناير نص على صرف مبلغ مالى قدره ١٠٠ ألف جنيه لكل من أصيب بعجز كلى من جراء الثورة، وقد تسلم أحمد حرارة المبلغ وبالتالى فلا حق له فى أى تعويض آخر. وهو ما يبدو صحيحا من الناحية القانونية، إلا أننا إذا دققنا فى المشهد جيدا سنلاحظ أن الدعوى انبنت على أن الشرطة هى التى أطلقت الخرطوش الذى أفقد أحمد حرارة عينيه. ولأن التاريخ الذى أعيدت كتابته فى وقت لاحق نفى مسئولية الشرطة عن إطلاق الخرطوش كما نفى وجود قناصة لدى وزارة الداخلية، فقد كان متعذرا من الناحية السياسية أن يصدر الحكم لصالح أحمد حرارة لأن ذلك سوف يعنى مباشرة أن الشرطة هى المسئولة حقا عما جرى له. ومن شأن ذلك أن يقلب رأسا على عقب الرواية التى جرى تسويقها التى أعفت الشرطة من تلك المسئولية. ولتبرئتها من الدماء التى سالت فإنها ادعت أن الذين قتلوا المتظاهرين كانوا من العناصر الخارجية (عناصر حماس وحزب الله). ومعروف أن تبرئة الشرطة من دماء المتظاهرين أدت إلى براءتهم فى نحو ٤٠ قضية رفعها الضحايا ضدهم فى مختلف أنحاء مصر.
قضية أحمد حرارة وأمثاله تفتح ملف التاريخ وتعيد طرح السؤال عما إذا كنا سنقرأ تاريخ الثورة من خلال ما كشفت عنه لجنة تقصى الحقائق التى تحرت أحداث تلك المرحلة بواسطة نفر من رجال القانون المبرزين والباحثين المتخصصين، أم أننا سنقرأ تلك الأحداث من خلال صياغات المؤسسة الأمنية وتحريات رجالها (التى رفض القضاء الاعتداد بها كأدلة فى القضايا المنظورة كما جاء فى أحكام الدستورية العليا ومحكمة النقض).
فى هذا الصدد أذكر بما خلص إليه تقرير لجنة تقصى الحقائق، وأشرت إليه أكثر من مرة، التى رأسها المستشار الدكتور عادل قورة رئيس مجلس القضاء الأعلى ورئيس محكمة النقض. وهو التقرير الذى وقع فى ٤٠٠ صفحة وأذيع نص خلاصته التى وزعت على الصحف يوم ١٨/٤/٢٠١١. وسلمت ثلاث نسخ من التقرير الأصلى إلى المجلس العسكرى الحاكم والدكتور عصام شرف رئيس مجلس الوزراء آنذاك والمستشار عبدالمجيد محمود النائب العام. ونص التقرير على ما يلى: «تبين للجنة أن رجال الشرطة أطلقوا أعيرة مطاطية وخرطوشا وذخيرة حية فى مواجهة المتظاهرين، أو بالقنص من أسطح المبانى المطلة على ميدان التحرير... وقد دلت على ذلك أقوال من سئلوا فى اللجنة ومن مطالعة التقارير الطبية التى أفادت بأن الوفاة جاءت غالبا من أعيرة نارية وطلقات خرطوش فى الرأس والرقبة والصدر».
المشكلة لا ننفرد بها، ذلك أن التباين بين التاريخ المعتمد سياسيا وبين التاريخ الحقيقى حدث فى مجتمعات كثيرة. فالهنود الحمر فى الولايات المتحدة يعتبرون التاريخ المعتمد هناك مزورا ومجافيا للحقيقة التى كانوا ضحاياها. وذلك أيضا رأى مثقفى الهند فى تاريخ الاستعمار البريطانى لبلادهم. كما أن تاريخ الأسباب التى أفضت إلى الحرب العالمية الثانية فى القراءة الغربية مختلف تماما عن الرواية التى اعتمدها النظام السوفييتى.
فى هذا الصدد قرأت أن الإسبان بعد وفاة الجنرال فرانكو عام ١٩٧٥ أدركوا أنه لا سبيل إلى تحقيق المصالحة الوطنية إلا بعد إعادة كتابة تاريخ بلادهم على أساس الروايات الصحيحة، بدلا من الروايات التى اعتمدها وقررها نظام فرانكو الذى استمر ٣٦ عاما، خصوصا فيما يتعلق بالحرب الأهلية بين الجمهوريين واليمينيين تحت زعامته، التى اندلعت بين عامى ٣٦ ـ ١٩٣٩.
ولأجل ذلك شكلت لجان عدة وعقدت جلسات استماع لتصحيح الوقائع وتشكيل إدراك وطنى عام خال من التدليس والتحيزات. الأمر الذى كان أحد العوامل التى ساعدت على تحقيق التوافق الوطنى المنشود ــ أشك فى أننا نستطيع أن نكرر التجربة فى مصر الآن لأننا مازلنا فى ظل التاريخ الرسمى ولم يحن بعد أوان مراجعته والتصالح مع التاريخ الحقيقى.
حين رفض القضاء الإدارى دعوى التعويض التى رفعها الناشط المعروف أحمد حرارة الذى فقد عينيه أثناء مظاهرات ثورة ٢٠١١ فى مصر، فإن سبب الرفض كان أكبر بكثير مما ورد فى حيثيات الحكم. ذلك أنه فى الظروف الطبيعية حين يفقد الطبيب الشاب عينيه فى المظاهرات التى أسقطت نظام مبارك، فمن حقه أن يعوض عن ذلك فى ظل النظام الذى جاءت به الثورة. خصوصا أنه ليس مصابا عاديا والثمن الذى دفعه كان باهظا للغاية. لأنه أنهى حياة طبيب الأسنان الشاب، وأغلق طريق المستقبل أمامه. إلا أن الأمر ليس بهذه البساطة. لأنه أكثر حساسية وتعقيدا.
لقد اختصم أحمد حرارة كلا من رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ووزير الداخلية مطالبا بتعويضه عن فقد عينيه نتيجة استخدام قوات الأمن الطلقات المطاطية والخرطوش فى فض المظاهرات التى شارك فيها بتاريخى ٢٨ يناير (يوم جمعة الغضب) و١٩ نوفمبر عام ٢٠١١. وأضاف فى دعواه أنه حين فقد عينه اليمنى يوم ٢٨ يناير فإن طبيبه المعالج أبلغه بأن حجم الخرطوش الذى أصابه يبلغ خمسة أضعاف الحجم العادى، ما يعنى أن الشرطة استخدمت ضد المتظاهرين نوعية فتاكة من الخرطوش. وفى حيثيات قرار محكمة القضاء الإدارى برفض الدعوى ذكرت المحكمة أن القانون الصادر عام ٢٠١٢ بتعويض ورثة شهداء ومصابى ثورة ٢٥ يناير نص على صرف مبلغ مالى قدره ١٠٠ ألف جنيه لكل من أصيب بعجز كلى من جراء الثورة، وقد تسلم أحمد حرارة المبلغ وبالتالى فلا حق له فى أى تعويض آخر. وهو ما يبدو صحيحا من الناحية القانونية، إلا أننا إذا دققنا فى المشهد جيدا سنلاحظ أن الدعوى انبنت على أن الشرطة هى التى أطلقت الخرطوش الذى أفقد أحمد حرارة عينيه. ولأن التاريخ الذى أعيدت كتابته فى وقت لاحق نفى مسئولية الشرطة عن إطلاق الخرطوش كما نفى وجود قناصة لدى وزارة الداخلية، فقد كان متعذرا من الناحية السياسية أن يصدر الحكم لصالح أحمد حرارة لأن ذلك سوف يعنى مباشرة أن الشرطة هى المسئولة حقا عما جرى له. ومن شأن ذلك أن يقلب رأسا على عقب الرواية التى جرى تسويقها التى أعفت الشرطة من تلك المسئولية. ولتبرئتها من الدماء التى سالت فإنها ادعت أن الذين قتلوا المتظاهرين كانوا من العناصر الخارجية (عناصر حماس وحزب الله). ومعروف أن تبرئة الشرطة من دماء المتظاهرين أدت إلى براءتهم فى نحو ٤٠ قضية رفعها الضحايا ضدهم فى مختلف أنحاء مصر.
قضية أحمد حرارة وأمثاله تفتح ملف التاريخ وتعيد طرح السؤال عما إذا كنا سنقرأ تاريخ الثورة من خلال ما كشفت عنه لجنة تقصى الحقائق التى تحرت أحداث تلك المرحلة بواسطة نفر من رجال القانون المبرزين والباحثين المتخصصين، أم أننا سنقرأ تلك الأحداث من خلال صياغات المؤسسة الأمنية وتحريات رجالها (التى رفض القضاء الاعتداد بها كأدلة فى القضايا المنظورة كما جاء فى أحكام الدستورية العليا ومحكمة النقض).
فى هذا الصدد أذكر بما خلص إليه تقرير لجنة تقصى الحقائق، وأشرت إليه أكثر من مرة، التى رأسها المستشار الدكتور عادل قورة رئيس مجلس القضاء الأعلى ورئيس محكمة النقض. وهو التقرير الذى وقع فى ٤٠٠ صفحة وأذيع نص خلاصته التى وزعت على الصحف يوم ١٨/٤/٢٠١١. وسلمت ثلاث نسخ من التقرير الأصلى إلى المجلس العسكرى الحاكم والدكتور عصام شرف رئيس مجلس الوزراء آنذاك والمستشار عبدالمجيد محمود النائب العام. ونص التقرير على ما يلى: «تبين للجنة أن رجال الشرطة أطلقوا أعيرة مطاطية وخرطوشا وذخيرة حية فى مواجهة المتظاهرين، أو بالقنص من أسطح المبانى المطلة على ميدان التحرير... وقد دلت على ذلك أقوال من سئلوا فى اللجنة ومن مطالعة التقارير الطبية التى أفادت بأن الوفاة جاءت غالبا من أعيرة نارية وطلقات خرطوش فى الرأس والرقبة والصدر».
المشكلة لا ننفرد بها، ذلك أن التباين بين التاريخ المعتمد سياسيا وبين التاريخ الحقيقى حدث فى مجتمعات كثيرة. فالهنود الحمر فى الولايات المتحدة يعتبرون التاريخ المعتمد هناك مزورا ومجافيا للحقيقة التى كانوا ضحاياها. وذلك أيضا رأى مثقفى الهند فى تاريخ الاستعمار البريطانى لبلادهم. كما أن تاريخ الأسباب التى أفضت إلى الحرب العالمية الثانية فى القراءة الغربية مختلف تماما عن الرواية التى اعتمدها النظام السوفييتى.
فى هذا الصدد قرأت أن الإسبان بعد وفاة الجنرال فرانكو عام ١٩٧٥ أدركوا أنه لا سبيل إلى تحقيق المصالحة الوطنية إلا بعد إعادة كتابة تاريخ بلادهم على أساس الروايات الصحيحة، بدلا من الروايات التى اعتمدها وقررها نظام فرانكو الذى استمر ٣٦ عاما، خصوصا فيما يتعلق بالحرب الأهلية بين الجمهوريين واليمينيين تحت زعامته، التى اندلعت بين عامى ٣٦ ـ ١٩٣٩.
ولأجل ذلك شكلت لجان عدة وعقدت جلسات استماع لتصحيح الوقائع وتشكيل إدراك وطنى عام خال من التدليس والتحيزات. الأمر الذى كان أحد العوامل التى ساعدت على تحقيق التوافق الوطنى المنشود ــ أشك فى أننا نستطيع أن نكرر التجربة فى مصر الآن لأننا مازلنا فى ظل التاريخ الرسمى ولم يحن بعد أوان مراجعته والتصالح مع التاريخ الحقيقى.