الاعتراف مقدمة للتصحيح

الاعتراف مقدمة للتصحيح

المغرب اليوم -

الاعتراف مقدمة للتصحيح

فهمي هويدي


أمام مجلس حقوق الإنسان فى جينيف قال المستشار البارز لوزارة العدل الأمريكية إن بلاده ليست دولة مثالية. وتحدث عن وحشية الشرطة فى تعاملها مع السود، وعن اعتراف الرئيس أوباما بوجود أخطاء فى ممارسات الأجهزة الأمنية ووعده بمحاسبة الضباط الذين تورطوا فى الاستخدم المفرط للقوة إزاء المواطنين. وخلال المناقشات فتحت ملفات انتهاكات الحقوق المدنية، والفشل فى إغلاق معتقل جوانتانامو، وأساليب التعذيب التى كشف عنها تقرير الكونجرس. كما أثير موضوع مراقبة الإنترنت.. إلى غير ذلك من التفاصيل التى أبرزتها على صفحتها الأولى جريدة الأهرام فى عدد أمس (١٢/٥) تحت العنوان التالى: أمريكا تعترف: لسنا دولة مثالية.

فى اليوم الذى سبقه (١١/٥) أبرزت الأهرام أيضا أخبار الانتهاكات التى يعلن عنها فى الولايات المتحدة. ووصفت المعلومات التى نشرتها بعض الصحف الأمريكية بهذا الخصوص بأنها فضيحة جديدة للشرطة الأمريكية. خصوصا بعدما أعلن المدعى العام فى ولاية فرانسيسكو أنه شكل لجنة لمراجعة أكثر من ثلاثة آلاف حالة اعتقال لأمريكيين سود خلال السنوات العشر الأخيرة.

لأول وهلة، حين يلاحظ الباحث اهتمام الأهرام بإبراز أخبار الانتهاكات والاعترافات التى تقر بحدوثها، فإنه لا يستطيع أن يفصل ذلك الاهتمام عن الدور التعبوى الذى تحرص الأهرام على القيام به، إذ المطلوب هو تسويغ ما يجرى فى مصر والايحاء للقارئ بأن الانتهاكات تمارس أيضا فى الدول الديمقراطية، ومن ثم فالحال من بعضه ــ كما نقول ــ ولا ينبغى أن يقلقنا أو يزعجنا ما تروج له بيانات الحقوقيين وصيحات المدونين. إلا أن للنشر وجها آخر يستدعى انطباعات معاكسة، ذلك أن المعلومات المنشورة على ألسنة المسئولين الأمريكيين المشاركين فى مؤتمر جينيف تتيح لنا أن نفهم الحاصل فى الولايات المتحدة، فى حين نظل عاجزين عن فهم الحاصل فى مصر على سبيل المثال. ذلك أن الانتهاكات الحاصلة عندنا لا يتحدث عنها سوى مواقع التواصل الاجتماعى والمنظمات الحقوقية المغضوب عليها، والتى اضطرت للاعتذار عن عدم المشاركة فى مناقشة الملف المصرى بمؤتمر جينيف حتى لا تتفاقم أزمتها مع السلطة، فى حين ان الوفد الرسمى المصرى الذى حضر آنذاك تبنى موقف الدفاع عن السياسة المصرية، والانكار للانتهاكات التى تمارسها الأجهزة الأمنية. لقد وجدنا فى النموذج الذى بين أيدينا ان مستشار وزارة العدل الأمريكية أدان موقف الشرطة ووحشيتها والكونجرس أعد تقريرا من ٥ آلاف صفحة عن التعذيب، كما ان أوباما وعد بمحاسبة الضباط المتورطين فى الانتهاكات، وها هو المدعى العام يطلب مراجعة ثلاثة آلاف حالة اعتقال للسود خلال السنوات العشر الأخيرة. بالمقابل فكل تلك الأمور مسكوت عليها رسميا فى مصر. وأى اقتراب منها يصنف بحسبانه إساءة للشرطة ووقيعة بينها وبين الشعب وسعيا خبيثا لإسقاط الدولة.

المشهد يستدعى ملاحظتين، الأولى ان الاعتراف بالأخطاء من علامات الشجاعة وقرائن الصدق فى محاولة تصحيحها والتطهر من آثارها. فى حين أن الذى ينكر ويدارى هو المصر على الخطأ الذى لا يعتزم العدول عنه، والأول هو الأجدر بالاحترام والثقة.

الملاحظة الثانية ان الحكم المنصف على أى مجتمع بل على أى شخصية عامة، ينبغى ألا يعول على عنصر واحد أو وجه واحد للمجتمع أو الشخصية. لأن نظرية البعد الواحد لا تصلح لتقييم أى وضع مركب. ولأنها تركز على بعد واحد أو وجه واحد للمجتمع أو الشخص فإنها غالبا ما تمثل نوعا من الانتقاء الذى يحجب الأوجه الأخرى. فالحكم على الواقع الأمريكى من زاوية الانتهاكات التى تمارسها الشرطة مثلا يظل تقييما قاصرا ما لم يُضف إليه موقف رأس السلطة التنفيذية وقرارات مؤسسة العدالة، وموقف المؤسسات التشريعية المنتخبة، ومنظمات المجتمع المدنى...إلخ.
ما دفعنى إلى تسجيل الملاحظة الأخيرة اننا كثيرا ما نبرر بعض سوءاتنا وخطايانا وأوجه قصورنا بدعوى أنها حاصلة فى مجتمع آخر. وقد يكون ذلك صحيحا، لكن وجه الخطأ فيه أنه يتجاهل مجمل الظروف والعوامل الأخرى التى تتوافر لذلك المجتمع، بحيث تحاصر تلك السوءات وتقلل من خطرها وتقضى عليها فى نهاية المطاف.

إذا دققنا فى الأمر فسنجد أن المشكلة أكبر من مجرد الاعتراف بالخطأ أو انكاره، لأنها فى عمقها وثيقة الصلة بموقفنا من قيمة نقد الذات أو نقد الآخر، التى هى جزء من ثقافة الممارسة الديمقراطية التى نفتقدها. وطالما ظلت الديمقراطية فى أزمة، فإن النقد سيظل جريمة دائما، وسيصبح شعار «كله تمام» هو «النقد البناء» المرغوب والمسموح به.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الاعتراف مقدمة للتصحيح الاعتراف مقدمة للتصحيح



GMT 14:47 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

حرب اعتزاز ومذكرة مشينة

GMT 14:46 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

شالوم ظريف والمصالحة

GMT 14:44 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

العدالة... ثم ماذا؟

GMT 14:42 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

لبنان وسؤال الاستقلال المُرّ

GMT 14:40 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

شاورما سورية سياسية مصرية

GMT 14:38 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الحضارة بين العلم والفلسفة أو التقنية والإدارة

GMT 14:01 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

استقرار لبنان... رهينة التفاوض بالنار

GMT 13:59 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

تغييرات في تفاصيل المشهد

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ المغرب اليوم

GMT 15:24 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

أفكار لتوزيع قطع الأثاث حول المدفأة
المغرب اليوم - أفكار لتوزيع قطع الأثاث حول المدفأة

GMT 21:05 2019 الجمعة ,06 أيلول / سبتمبر

تنتظرك أجواء هادئة خلال هذا الشهر

GMT 04:31 2017 الجمعة ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

قلة تناول "أوميغا 3" يؤدي إلى ضعف السلوك الاجتماعي

GMT 23:34 2024 الثلاثاء ,22 تشرين الأول / أكتوبر

الذهب يلامس قمة جديدة والفضة عند أعلى مستوى في 12 عاما

GMT 06:11 2017 السبت ,17 حزيران / يونيو

تعرف على توقعات أحوال الطقس في طنجة السبت

GMT 15:38 2014 الإثنين ,08 كانون الأول / ديسمبر

فوائد الحلاوة الطحينية

GMT 06:15 2017 الأربعاء ,25 كانون الثاني / يناير

شركات الأقمشة تطرح تصميماتها الرائعة من حرير "الدمسق"

GMT 18:40 2016 الثلاثاء ,13 كانون الأول / ديسمبر

عمرو أديب يستضيف إسلام البحيري بعد العفو الرئاسي عنه

GMT 18:34 2016 الإثنين ,18 كانون الثاني / يناير

فلويد مايويذر يقوم بجولة يزور خلالها 8 مدن إنجليزية

GMT 19:41 2016 الخميس ,08 كانون الأول / ديسمبر

تسرّب الماء الصالح للشرب في مدينة بركان المغربية

GMT 03:47 2017 الخميس ,05 تشرين الأول / أكتوبر

جيهان السادات تنفي تورط مبارك في اغتيال الرئيس الراحل
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib